عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هدى أبو غنيمة - الأردن

«إمبراطورية النظرة المحدقة»


هدى أبو غنيمةمنذ وجد الإنسان على هذه الأرض، وهو يحاول تسخير المادة والطبيعة للارتقاء بمعيشته، وللتكيف مع بيئته، فكان يصور أهم فعاليات حياته اليومية وهي الصيد على جدران الكهوف.

وفي مراحل لاحقة سجل بعض الأحداث والوصايا والأشعار، بواسطة الصورة على المعابد مثل الكتابة الهيروغليفية في الحضارة المصرية القديمة، لكنه اليوم في عصر الصورة، أو «إمبراطورية النظرة المحدقة» كما يسميها العالم الفرنسي ميشيل فوكو، أصبح الإنسان أيقونة افتراضية، تشكل مواقفها وأفكارها الصور في عالم يجتاحه طوفان من الصور، يكاد يقطع صلته بالماضي وبالأنماط الثقافية، التي جهدت الإنسانية في إنجازها عبر القرون.

عالم لم يعد يعتد بالمشاعر الإنسانية، أو يحترم خصوصية الإنسان.

لقد باتت الصورة تنافس الواقع المعيش، وتهيمن عليه وأداة تصنيع لعالم غير حقيقي، لكونها إنتاج حضارة تمتلك القوة المادية والمعرفة، فهي تعيد الصياغة الثقافية للبشر، وتخضع المتلقين على اختلاف خصوصياتهم الثقافية لإرادتها ورقابتها. وهذه الإرادة لا تخلو من أغراض سياسية، واقتصادية غير نزيهة في تطلعاتها وأهدافها، لغزو المجتمعات لا سيما المجتمعات التي تستهلك ولا تنتج ومن ثمة فهي معرضة للاستلاب.

فهل سيعود الناس سجناء في أوهام الكهف؟

«لقد شبه أفلاطون، الذين يعيشون في العالم الحسي بأناس يعيشون في كهف منذ ولادتهم لم يخرجوا منه قط، وهم مقيدون بأغلال تربطهم بجدران الكهف بحيث لا يتمكنون من الالتفات وراءهم. كل ما يمكنهم رؤيته، هو ظل الأشياء والأشخاص على جدار الكهف، وهم يعتقدون أن هذه الظلال هي الحقيقة، وهي ليست كذلك. إنهم يعيشون سجناء في أوهام الكهف، وهي تلك الأوهام التي ربطها «بوديارد» خلال القرن العشرين بما تفرضه وسائل الإعلام المرئية الحديثة على الإنسان من أوهام وقيود وأغلال، وابتعاد عن الحقيقة من خلال هذا العرض المكثف المتواصل للظلال والقشور والأصداء»(1).

يرى فؤاد زكريا أن «تشبيه الكهف هو أشبه بمقارنة بين نمطين من الحياة: حياة تفتقر إلى الاستنارة مع الظلام داخل الكهف، وحياة مستنيرة تدرك حقائق الأشياء في ضوء الشمس. والكهف يصور الصراع الأزلي بين قيم الحياة الفلسفية، وقيم الحياة اليومية السطحية، وهو صراع قد يدور داخل الفرد نفسه مثلما يدور بين فئات من البشر»(2).

فما تأثير هذا الطوفان من الصور على مجتمعاتنا العربية، التي تشكل لغتها محور هويتها؟

المجتمعات العربية بين وهم الظلال وضوء الشمس

قد تعاني بلاد الشمس من أوهام الظلال في عالم الصورة وآثارها السلبية، أكثر مما تعاني من آثارها المجتمعات الأخرى. ففي غياب البصيرة النقدية في مجتمعاتنا، التي تفتقر إلى الديمقراطية وحرية الرأي، فإن تأثير ثقافة الصورة يؤرق الباحثين والمفكرين بما يحمله من تحديات على صعيد اللغة والفكر والهوية نظراً «إلى هيمنة اللغوي على البصري في حقل الثقافة العربية، وكذلك لكون مباحث الصورة في العالم العربي تعاني الضعف والوهن»(3).

كذلك تؤرق الباحثين ثقافة الصورة بما تحققه من متعة للحواس، وسهولة للمتلقي، وتزييف للوعي، وتفرض نماذج وافدة تؤدي إلى العنف وإثارة الغرائز، وتشجيع الاستهلاك في مجتمعات تعاني أزمات سياسية واقتصادية، وليست منتجة لصالح شركات تجد في مجتمعاتنا أسواقاً لتصريف منتجات فقدت صلاحيتها في المجتمعات الأخرى أو أثبتت الدراسات العلمية سلبياتها وأضرارها. بالإضافة إلى تقديم نماذج مزيفة للحياة والعلاقات الإنسانية أصبحت مطمحاً لكثير من الفئات في مجتمعاتنا، من خلال مسلسلات أمثال: (بيتون بليس) و(دالاس)، علماً أن كثيراً من الناس في العالم الغربي لم يكونوا من متابعينها أو مروّجينها؛ لأنهم لا يملكون وقتاً لذلك، بينما مساحة الفراغ في المجتمعات العربية أكبر، وتأثير هذه المسلسلات أقوى في تغيير هذه المجتمعات وتفكيك بنيتها، لأن 90% من مدخلات الإنسان الحسية هي مدخلات بصرية كما تقول بعض الدراسات الحديثة.

«يذكر عالم التربية الأمريكي، جيروم برونر، المشهور بدراساته عن التفكير، وعن التربية من خلال الاستكشاف والإبداع، أن الناس يتذكرون 10% مما يسمعونه، و30% فقط مما يقرأونه، في حين يصل ما يتذكرونه من بين ما يرونه إلى 80%»(4). لذلك لا نستغرب أن العالم يتغير حرفياً نتيجة للتطورات التقنية المذهلة في عصر المعلومات، وأن أثر هذه التطورات على المجتمعات سلباً أو إيجاباً، يرتبط بكيفية التمثل لهذه التطورات وارتباط التمثل بالإطار المعرفي والخصوصية الثقافية لهذه المجتمعات، فقد يكون ملهماً للإبداع، وقد يكون التكرار والتنميط، مصدراً لألفة الاعتياد وتسطيح الوعي.

لقد وجه النقاد في العالمين الغربي والعربي سهامهم إلى هذا الطغيان البارز للصور وعدّوها مسؤولة عن الارتفاع في معدل الجرائم، وإنتاج جيل حسي تتحكم به غرائزه، لا سيما أن الصورة لم تعد بألف كلمة كما كان المثل الصيني القديم يقول، بل ربما أضحت بملايين الكلمات.

ولعلنا نلمس آثار عالم الصورة في مجتمعاتنا العربية في الانفصال عن الواقع، وفقدان الحساسية لهذا الواقع والاستغراق في عوالم داخلية ترتبط بالصور والأخيلة، والأحلام وربما الهلاوس.

يقول روبنز: «يكون الأمر في حالة الاستغراق في عالم الصورة، أشبه بنوع من الإدمان الحسي لعالم تعويضي بديل، يكون الهدف من ورائه التلاعب بنظام الإحساسات الكلية للكائن من خلال التحكم في المثيرات الخارجية، التي يتعرض لها مما يؤدي إلى أثر تخديري من خلال الإغراق للحواس»(5). ويضيف إلى ذلك قوله: «تقوم التكنولوجيا بدور الوساطة بين الجهاز الحسي للإنسان، والوجود الخارجي الذي يعيش فيه، والذي قد يمتلئ بالصدمات، فتشكل التقنية قلعة حصينة مثلما تحمي الناس من صدمات الواقع ومشكلاته، فإنها أيضاً تقوم باحتجازهم في داخلها»(6).

هذه الجوانب من الثقافة الإنسانية والخبرة جوانب مهمة في فهم المعنى الثقافي للاستهلاك.

هل هناك مهرب من سلبيات عالم الصورة؟ أو هل ثمة طوق نجاة لاستثمار إيجابياتها بمشاركتنا في إنتاجها لإثراء ثقافتنا وهويتنا؟ ألا تتيح لنا فرصة للتعريف بثقافتنا ومعاناتنا، لإيصال أحلامنا ورؤانا إلى العالم؟

كان ميشيل فوكو شديد الافتتان بالقضايا البصرية وقليل الاهتمام بالقضايا السمعية، وقد انحاز إلى طرائق اكتشاف البنية المعرفية، أو الخطاب المعرفي السائد خلال كل فترة زمنية. ورأى «أن الخطاب العلمي الأول، حول الفرد كان عليه أن يمر عبر خشبة الموت ... فمثلما ولد الطب النفسي من خلال الأفكار، التي تشكلت بصرياً حول المجنون، كذلك نشأ العلم الحديث حول الفرد من الاختراق البصري الطبي لأجساد الموتى وتشريحها باثولوجياً». ويقول فوكو: «ليس هناك هروب من إمبراطورية النظرة المحدقة الحالية، وليس من بديل حميم مغاير»(7).

من الجوانب المهمة في نظرية فوكو حول أشكال الخطاب والممارسات، والاستراتيجيات الخاصة بالسلطة ما يتعلق بقوله: «إن أنظمة السلطة وبطريقة ما تشجع الناس على تنظيم أنفسهم، دون تهديد فعال بالعقاب فنحن نستدمج في داخلنا نظرة محدقة إدارية تراقبنا، وتجعلنا ننصاع بطريقة معينة»(8).

إن مجتمعنا الحالي في رأي فوكو هو مجتمع المراقبة وليس مجتمع المشهد، لأننا موجودون داخل منظومة الرؤية الكلية الخاصة بالمراقبة.

سواء تبنينا تسمية عالم الصورة «بمجتمع المشاهدة» كما سماه المفكر الفرنسي «جي ديبور» أو تسمية ميشيل فوكو «امبراطورية النظرة المحدقة»، فإن عالم الصورة قد حرك الراكد والساكن في المجتمعات العربية، وأتاح مساحة من الحرية ولو كانت افتراضية ومزيفة. ويبدو تأثره بها مثل من خرج من ظلال الكهف ليواجه ضوء الشمس منبهراً،ولعلنا نتلمس بعض الإيجابيات في ما أتاحته من إضاءات لقضايانا المصيرية.

إيجابيات الصورة

قد يتيح مجتمع الصورة إعادة تقييم صورة الذات الجمعية في ضوء معرفة الآخر واجتياز مرحلة الانبهار بحضارته ومحاولة التميز والمواجهة بأدوات العصر، كذلك العودة إلى معرفة أهمية الكتاب في تقليل نسبة الجهل لتجاوز أزمة الأفق المسدود في هذه المجتمعات بتشجيع القراءة وتأمين الكتاب بأسعار رخيصة، كما يحدث في الأردن على سبيل المثال وفي مجتمعات عربية أخرى، كذلك اتساع الاهتمام بدراسات الثقافة البصرية، وتطوير كليات الإعلام لزيادة الوعي بأهمية قراءة خطاب الصورة وتفكيك شيفراته.

ولنا أمثلة في ما لعبته الصورة من دور في الغزو الأمريكي للعراق، وفي ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من مذابح ودمار، مما أحرج منظمات حقوق الإنسان، وأوصل كثيراً من الحقائق إلى الرأي العالمي العام رغم التعتيم والتضليل الإعلامي السياسي الغربي.

تقول المصورة (سنكلير): «بعض المطبوعات التي أعمل معها، لم يرغبوا في نشر ضحايا المدنيين العراقيين، التي تؤجج المشاعر»(9).

سجن أبو غريبعلق تيموثي غارتون آش في صحيفة «الغارديان» البريطانية: «أبو غريب، وغوانتنامو، دمرا الولايات المتحدة أكثر مما قد تفعله القاعدة في أي اعتداء مباشر»(10). لقد كانت الصورة وثيقة لا تنكر في إثبات ما تعرض له السجناء العراقيون من تعذيب واعتداء، وإذلال. وأكثر هذه الصور شهرة هي: «صورة الرجل الذي غُطّيَ رأسه بكيس، ويقف ماداً ذراعيه الموصلتين بأسلاك كهربائية مربوطة ببدنه. وقفة السجين تذكر الأمريكيين بالصليب ومعاناة السيد المسيح وآلامه»(11).

وكذلك صور صبرا وشاتيلا وصورة قتل الجنود الإسرائيليين للطفل محمد الدرة، وهو بين ذراعي والده، وصور الحرب على غزة. وتلعب هذه الصور دوراً في إبراز سيكولوجية السادية والعنصرية التي تخللت الحرب.

وكما يشرح عمر عتيق: «لا يخفى الدور الوظيفي للصورة في الخطاب الثقافي إذا ما استخدم بحرفية، في إضاءة فكرة بزمن قياسي، واختزال قضية كبرى يحتاج التعبير عنها مقالاً مطولاً، أو كتاباً بما تخلقه من فضاءات دلالية أمثال: رسومات ناجي العلي، التي عبرت عن المعاناة الجمعية الفلسطينية، بما خلقته من إيحاءات رمزية من خلال أيقونة فنية وسياسية هي حنظلة». وينقل عن ناجي العلي قوله: «حنظلة هو شاهد العصر الذي لا يموت. الشاهد الأسطورة الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادرها، وقد استمر به بعد موتي»(12).

كذلك رسومات الفنانة أميّة جحا، التي تبرز فيها ظاهرة التناص، وتمتلك آلية اختيار لافتة لعبارات التناص، فقد استحضرت في إحدى لوحاتها مشهداً من القرآن الكريم، يصور أبرهة الحبشي الذي عزم على هدم الكعبة المشرفة، ويظهر يهودياً تميزه النجمة السداسية يركب فيلاً وطيور الأبابيل، التي اتخذت أسماء الشهداء ترميه بحجارة من سجيل، وتضمنت اللوحة قوله تعالى: «وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل»(13).

ولما كان للحمامة البيضاء بعد إنساني، يتخطى حدود الجغرافيا واختلاف الأجناس، فإنه قد تحول في رسومات أميّة جحا إلى خصوصية فلسطينية، حينما نرى حمائم السلام سجينة باكية تعبيراً عن غياب السلام في فلسطين(14).

«وتجسيداً لاعتزاز الفلسطيني بالمفتاح الرمز فقد ظهر قلادة تتدلى على الصدر في أكثر من لوحة، وتعليق المفتاح في الرقبة كان مظهراً اجتماعياً سائداً في كثير من الأماكن الفلسطينية.. فالمفتاح حول العنق دلالة على الحرص عليه، وأن العودة إلى الوطن أغلى ما يملك اللاجئون، ويبدو التصميم على العودة جلياً في إحدى لوحاتها، وذلك من خلال نبات الصبّار الذي نبت في رأس اللاجئ من طول الانتظار»(15).

خاتمة

إذا كان ما نراه الآن، يسير في اتجاه مضاد للتقدم والتجدد والإبداع، وتهيمن عليه ثقافة المظهر والشكل والإبهار والاستعراض على حساب ثقافة الجوهر والمضمون والقيمة، وتحوّل الإنسان إلى سلعة، فإن ما نلحظه من ومضات مبدعة واعدة تتجلى في بعض الأفلام الوثائقية، وبعض الأعمال الموسيقية الفنية والأدبية، قد يقول لنا ثمة طوق للنجاة يتيح لنا تصحيح صورة الذات الجمعية التي تشظت ويتيح لنا أيضاً إبراز هويتنا بما يليق بعمقنا الحضاري لنشارك في المشهد الإنساني منتجين لا متلقين ومستهلكين فحسب.

= = = = =

المراجــــــع

1= عصر الصورة السلبيات والإيجابيات. شاكر عبد الحميد، ص 84، سلسلة عالم المعرفة. عدد 31 يناير، 2005.

2= عصر الصورة السلبيات والإيجابيات، شاكر عبد الحميد، ص 84.

3= انظر فريد الزاهي (2002) مقدمة ترجمته لكتاب حياة الصورة وموتها، تأليف ريجيس دوبريه. أيضاً عصر الصورة السلبيات والإيجابيات. شاكر عبد الحميد، ص 8.

4= عصر الصورة السلبيات والإيجابيات، ص 14.

5= عصر الصورة، ص 414.

6= المرجع نفسه، ص 414.

7= المرجع نفسه، ص 79.

8= المرجع نفسه، ص 108، 110، 116.

9= ثقافة الصورة في وسائل الإعلام، عبد الجبار ناصر، ص 210. الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط 1، 2011.

10= المرجع نفسه، ص 210.

11= المرجع نفسه، ص 211.

12= ثقافة الصورة دراسات أسلوبية. عمر عتيق، ص 49، عالم الكتب الحديث، إربد - الأردن، 2011.

13= المرجع نفسه، ص 64.

14= المرجع نفسه، ص 84.

15= المرجع نفسه، ص 77.

نشر هذا البحث أول مرة في مجلة "عـود الـنـد"، العدد 100 () ضمن ملف عن ثقافة الصورة.

اضغط/ي هنا للاطلاع على المواد الأخرى في الملف والعدد 100.

D 1 حزيران (يونيو) 2016     A هدى أبو غنيمة     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • الاستاذة هدى
    مقال قيم وثري ومثير للتفكير. ان طغيان الصورة في المجتمعات الغربية جعل الانسان يزداد انكماشاً حول نفسه لدرجة أنه يصدق الصورة اكثر من الحقيقة، الطفل الدرة صور في شرق اوروبا على انه غير عربي ، والعرب هم من يضطهدونه. ان الانسان الغربي التي تتحكم فيه امبراطورية النظرة المحدقة، امام طغيانها وأمام ضيق وقته ، هو لن يبحث عن الحقيقة المؤلفة اصلاً من صور يعاد تزييفها.أما في المجتمعات المستهلكة فغدا الانسان آلة تسيره الصورة، وتدفعه لتنفيذ ما يريده صانع الصورة، وهو اي الانسان المستهلك، أراه سعيداً للقيام بهذا الدور.أقصد دور الاعمى الذي افقدته الصورعقله وبصيرته.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 01: مستمرون في خدمة الثقافة

العدد الفصلي الأول: بي دي اف

النص القرآني وأنواع المتلقين

هنا لا صوت للسّماء

مدن العناكب