عدلي الهواري
كلمة العدد 116: الاحتكام للضمير لتبرير الحرب
الضمير ملاذ الإنسان الأخير، فقد يحول بينه وارتكاب عمل فظيع، أو يحمله على القيام بعمل حميد. والضمير يخز، ويؤنب، ويصحو أيضا. وفي هذه الحالات جميعا له دور إيجابي. ويطلق على بعض السجناء بالإنجليزية وصف سجين ضمير (prisoner of conscience)، أي سجين لأنه يريد التصرف وفق ما يمليه عليه ضميره[1]. وحتى في الدول التي فرضت أو لا تزال تفرض التجنيد الإجباري، يستثنى بعض الأفراد من الخدمة الإجبارية ويطلق عليهم لقب (conscientious objector)، أي معترض على أساس الضمير.
هذه المقدمة عن الضمير لها علاقة بقرار مجلس العموم البريطاني الموافقة في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2015 على مشاركة سلاح الجو البريطاني في الغارات الجوية التي تشنها طائرات دول عديدة في سورية. والعلاقة بين قرار من هذا النوع والضمير تبدو غريبة، ولذا الأمر بحاجة إلى توضيح.
في عام 2010، لم تسفر الانتخابات البرلمانية في بريطانيا عن أغلبية مطلقة لأي من الحزبين الرئيسيين، وهما حزب المحافظين بزعامة ديفيد كاميرون، وحزب العمل بزعامة غوردون براون. ونتيجة لذلك، شكلت حكومة ائتلافية بين حزب المحافظين وحزب ثالث صغير، هو حزب الديموقراطيين الأحرار بزعامة نك كليغ.
في عام 2013، كان شن حرب على سورية قاب قوسين أو أدنى. ولأن الولايات المتحدة ترغب في القيام بالأعمال العسكرية بمعية دول حليفة وصديقة، فقد انتظرت من شريكتها الصغرى، بريطانيا، أن تشارك معها، ولكن كما الحال في الدول الديموقراطية ولو نسبيا، احتاج الأمر إلى موافقة من البرلمان، وفي العادة، تحصل الحكومات على ما تريد من البرلمانات.
دعا كاميرون إلى جلسة استثنائية لمجلس العموم في آب/أغسطس 2013 ليحصل على
الموافقة المطلوبة، وما كان ليفعل ذلك لو لم يكن واثقا من أنه سيحصل على مراده، ولكن مجلس العموم فاجأه ورفض منح الموافقة بفارق بسيط في الأصوات (285 ضد مقابل 272 مع) واعتبر قرار شن حرب متسرعا.
صدم كاميرون ولكنه أعلن احترامه للقرار، ولم تقع الحرب المتوقعة في تلك الفترة، لأن الولايات المتحدة لم تكن قادرة على خوضها مع شريكتها، ليس لحاجة إلى جنود وعتاد، ولكن لأن الأمر يبدو أفضل بمشاركتها، فثمة أسلوب متبع عندما ترغب دولة بشن حرب على أخرى، إذ تعمل على إنشاء تحالف تكون فيه القوة الرئيسية، وتضطر وسائل الإعلام إلى الحديث عن "ائتلاف" بدل من ذكر اسم دولة محددة.
في شهر أيار (مايو) 2015 جرت الانتخابات برلمانية، وفاز فيها حزب المحافظين بأغلبية مطلقة، وظل كاميرون يحن إلى المشاركة في الغارات التي تشنها طائرات دول عديدة في سورية، وقدم الأمر وكأنه استجابة لطلب الحلفاء والأصدقاء ان تشارك بريطانيا كتعبير عن التضامن معهم.
ولتمتع حزب المحافظين بالأغلبية، لم يكن هناك شك هذه المرة في أن مجلس العموم سوف يوافق على المطلوب منه، ولكن كاميرون كان يريد أيضا موافقة من أعضاء الأحزاب الأخرى، وخاصة منافسه التقليدي، حزب العمال، الذي انتقلت زعامته إلى اليساري جيريمي كوربن، المعارض للحروب والأسلحة النووية. وكما تحدثت في مقالة سابقة (ينظر العدد 113)، فإن قيادة كوربن لا تزال تقاوم في الحزب وخارجه، رغم فوزه بحوالي ثلثي أصوات الذين يحق لهم التصويت.
من التقاليد المتبعة في مجلس العموم فرض الأحزاب على نوابها التصويت بنعم أو لا في كثير من الحالات لأن للحزب موقفا جازما بشأن قضية ما. وفي بعض الحالات، وهي قليلة، يسمح الحزب للأعضاء بالتصويت كما يريدون، ويسمى تصويتا حرا (Free Vote).
مؤيدو مشاركة بريطانيا في الغارات داخل حزب العمال، طالبو الزعيم الجديد، كوربن، بعدم فرض التصويت بلا ضد المشاركة، انسجاما مع موقفه المناهض للحرب. ووضع الرجل بين نارين: نار الموافقة على المشاركة، ونار التمرد عليه في الحزب.
وقال الداعون إلى تصويت حر إن هذا يمكن النواب من التصويت وفق ما تمليه ضمائرهم، وهذا أغرب ما قيل كمبرر، فهنا كان الحديث عن الضمير منافيا لاستخدامه الطبيعي، كأن يردعك عن الإقدام على فعل فظيع، أو يحملك على القيام بفعل حميد.
بعد رفض بدا جازما في البداية، وافق كوربن على التصويت الحر، ونتيجة لذلك، صوت مع حزب المحافظين الحاكم 66 نائبا من حزب العمال المعارض. وكان ذلك بذريعة الاحتكام إلى الضمير. ومن المفارقات أن سبعة من نواب حزب المحافظين صوتوا ضد قرار المشاركة، مخالفين بذلك أمر الحزب.
هذه حالة أخرى من حالات عدم الانسجام بين المبادئ المعلنة والممارسة الواقعية، فاحترام حقوق الإنسان مثلا لا يعقل أن يكون سببا لشن حرب أول نتائجها عدم احترام أول حقوق الإنسان، وهو الحق في الحياة، فيقتل الآلاف من الناس، ويصاب عدد أكبر، ويشرد الناس من بيوتهم، وتدمر الجسور والمباني العامة وحتى البيوت.
الاحتكام للضمير في حالة كهذه يقتضي فعل كل ما هو ممكن لتفادي الحروب، لا التصويت من أجل شنها أو المشاركة فيها.
= = = = =
[1] تعرّف منظمة العفو الدولية سجناء الضمير بأنهم الأشخاص الذين يسجنون بسبب معتقداتهم السياسية أو الدينية أو غيرها من المعتقدات النابعة من الضمير، أو بسبب الأصل العرقي أو الجنس أو اللون أو اللغة أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الوضع الاقتصادي، أو المولد، أو التوجه الجنسي، أو أي وضع آخر، شريطة ألا يكون الشخص استخدم العنف أو دعا إلى استخدامه.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- ● كلمة العدد الفصلي 28: الورق والتمويل: وصفة الانتحار البطيء
- [...]
2 مشاركة منتدى
كلمة العدد 116: الاحتكام للضمير لتبرير الحرب, زهرة يبرم - الجزائر | 26 كانون الثاني (يناير) 2016 - 09:53 1
مقالة قيمة تزيح الستار عن بعض مواخر اتخاذ القرار في العالم، والحقيقة أنه لا يسعنا إلا تقديم العزاء والرثاء في الضمير العالمي، الغربي والعربي على السواء، إزاء ما يحدث لشعوبنا على أراضينا.
شكرا على الجهد في إصدار المجلة
لك عاطر التحية وأطيب المنى
كلمة العدد 116: الاحتكام للضمير لتبرير الحرب, هدى أبوغنيمة عمان الأردن | 26 كانون الثاني (يناير) 2016 - 22:07 2
تحية طيبة دكتور تعقيبا على مقالك القيم تعتبر الشعوب العربية قتلى الضميرين الغربي والعربي وهما يعقدان صفقات السلام للخلاص من أزمة الضمير.