طه بونيني - الجزائر
نداء صلاح الدّين
تَقَوَّيتُ بابني، سمّيتُه صلاح الدّين. أردتُ اسماً يرتبط بالوطن، حتّى أوشكتُ أن أسمّيه فلسطين.
تسلّحتُ باسمه، حَمَلتُه معي رضيعا إلى كلّ مكانٍ أقصده، شعارا للسلام والنصر معا، وكأنّه غصن زيتون.
لا أراه الآن إلّا من خلال ذاكرتي التي تبعث الحياة في هذه الغيبوبة السرمدية التي أُسِرتُ فيها. لستُ أعي، لستُ أدرك، أنا أحسّ فقط. وما دَريتُ بأنّي في غيبوبة لولا الضيفُ الذي يزورني بين الحين والحين.
ليس ضيفا في الحقيقة بل طيف، "طيفُ المقابر" هكذا عرّف بنفسه. ما فَتِــئَ يهتفُ باسمي في همس بادئ الأمر. ولمــَّا طالت غيبتي واستفحَلت حالتي، صرتُ أسمعُ صوته يتردّد بوضوح وسط الصمت السرمدي.
تساءلتُ مرّة: "طيف المقابر؟ وماذا يفعل هنا؟ هل أنا في تعداد الموتى؟"
وراح الصدى يعيد صوتي، حتّى قطعه صوت الطيف: "لا، أنت تُصارع الموت".
"الصراع" كلمةٌ مألوفة بالنسبة لأبناء فلسطين. بالأمس، كُنتُ أصارع الحياة واليوم قد اختلف الخصم فحسب.
كان السواد يخيّم على المكان الذي كنتُ مُسجًّى فيه. وخُيِّل إليَّ أنّني ممدود على كرسيّ شارع، في حديقة ما. وكانت النجوم أمامي تغطّي القبّة السماوية كلآلئ على بساط أسود. أحسستُ بجسدي مسمّرا مخدّرا ورأسي لا يقوى على الحراك. لم يكن بوسعي أن أتطلّع في ذاتي، وكان مجال رؤيتي أمامي مباشرة. وتحوّلَ الطيفُ الذي ينتظر اندثاري أنيسا لوحدتي.
كنتُ أهيم بين النجوم، وأحيانا ينقطع كلّ شيء. ظُلمةٌ حالكة، حتّى في غيبوبتي كنتُ أغيب. بالنّجوم أرسمُ وجهَ ابني، يبكي ويضحك ويحبو ويمشي ويجري كشهاب في السماء.
قال لي الطيف في إحدى مناجاته: "أنا روح تسكن تقاطيع الأرض ومُهمّتي حراسة القبور".
كان صوتُه رخيما وكأنّه صوتُ حكاواتي، أو مذيع راديو. وراقَ لي ذلك الإحساس فاستعذبتُ مواصلة الحديث.
"ألا زلتُ في المستشفى؟"
"نعم. هم يتشاورون حول وضع حدّ للتنفس الاصطناعي وإنهاء الغيبوبة. أنتَ هنا منذ عام".
"هل تقول عام؟"
"نعم".
فكّرتُ مباشرة في ابني صلاح الدّين. قُلتُ وأنا أُفكِّر بصوت عالٍ: "يُفترضُ أن يكونَ عمرُه سنةٌ وستّة أشهر".
لم يُعر الطيف اهتماما لكلامي. وقال لي: "لقد راقبتُ قبور الأرض كلّها، ولم أَجِد أغربَ من مقابركم".
لم أتعجّب من كلامه. فكلّ شيء يخصُّ فلسطين حالة خاصّة، وكأنّها أرضٌ يأخذ فيها الضمير الإنساني عطلةً. لعلَّ هذا الضمير، إن وُجد، لا تروق له الراحة إلّا على أرضنا. وواصل الطيف كلامه بصوتِه الرخيم:
"هنا، في أرضكم، يَدفُنُ الآباء أبناءهم. هُنا يُزفُّ الموتى إلى مثواهم الأخير وتستحيل الجنازة عُرساً. هنا تمتزج الدموع مع الزغاريد".
قلتُ بسخرية وحُرقة لا تُنمُّ عن صدق: "ضيّع علينا الغريبُ طعم الحياة، فاحترفنا حبّ الموت".
ليس القولُ صحيحا، لأنّ العدوّ حَرمَ نفسه الحياة، عندما سخّر كيانه كلّه لمطاردتنا. أمّا نحن فنقاوم، والمقاومة تعني التشبّثُ بالأرض، التجذّر في أعماقها والإحساس بكلّ مكوّناتها، من السماء وحتّى باطن الأرض. نحن شعبٌ حالمٌ وآمل رغم مُناخِ اليأس والموت الذي يحوم حولنا صباحَ مساء كغُرابٍ نَحس.
وقال الطيف: "وتلك الثقوب الأرضية، ماذا تسمّونها؟"
"أنفاق، نسمّيها أنفاقا. انحسرت الأرض وضاقت على رحابتها، وكأنّ حركة الأرض في بلدي مدٌّ بلا جَزر، فاتّخذنا جوف الأرض المقدّسة وِجاءً لنا".
وفجأة رسَمَت النجوم خريطة فلسطين بكامل ترابها، أعجبني المنظر رغم أنّي أكره الخرائط، خاصّة تلك الخريطة الثلاثية حيث تضمحلّ أرض فلسطين من عام النكبة إلى عام 67 وصولا لوقتنا الحالي، وتصير بقعا صغيرة ضائعة وسط قهرِ الزمن. أخافُ إطالة النَّظر فيها، خشيةَ أن أرى البقع الصغيرة الباقية وهي تتلاشى أمام عينيّ.
تعجّب الطيف لِكلامي. هو لا يعي شيئا ممّا أقول. مُهمّته أن يهيّئني للموت لا غير، ولم يكن ينوي خوضَ هذه المحادثة الدرامية.
سكتَ وكأنّ شيئا ممّا يُهمُّ الأطياف، قد لَفَت انتباهه. وتُهتُ مرّةً أخرى بين النجوم.
ثمّ قال لي: "الكثير الكثير من الأشخاص المهمّين يزورونك كلّ يوم. من أنت؟"
فسألته بعفوية: "ألم تعرفني؟"
ثمّ استدركتُ، فكيف عساه يعرفني؟ وأتممتُ كلامي: "أنا لاعب الهجوم في المنتخب الفلسطيني لكرة القدم. لعبنا موسما رائعا هذا العام، أقصد العام الفائت. وكدنا نظفر بالفوز في النهائي".
والتزمتُ الصمت لبرهةٍ من الزمن، أُردّد الذكريات. ثمّ قلتُ وابتسامة ملؤها السعادة تتّسع في محيّاي مع كلّ كلمة:
"كنّا أفضل هجوم لسنوات عديدة. هجومنا في الملعب كان أفضل بالتأكيد من مجموع جهود العرب لنصرة قضيّتنا. كنتُ أكافح لرفع العلم وتشريفِه، عن طريق الأهداف التي تصيبُ مرمى الخصم كصاروخ، أو كحجرٍ يُطلقُه صبيّ نحو جندي مدجّج بالسلاح، والفرق الوحيد أنّني كنتُ أجني التصفيق لقاء ذلك.
"عندما تفوز المنتخبات تعود إلى أوطانها بالنصر، ونعود نحن إلى الوطن كفاتحين. وجدتُ في الكرة سلاحي الوحيد والفتّاك. وكلّما رأيتُ عَلمَ فلسطين يرفرف عاليا في النهائيات، أحسستُ أنّ القضية تتقدّم، أنّ الأسرى سيُطلَقُ سراحهم، أنّ اللّاجئين سيعودون قريبا، وأنّ جرحنا الغائر سيلتئم من جديد.
"كنّا نكافح بطريقتنا. المهمّ أن نُسمِعَ العالم صوت قضيّتنا. الشعوب المظلومة تنحو لأجل ذلك كلّ منحى، عن طريق المقاومة أو الرياضة أو حتّى بالطوابع البريدية. المهمّ أن تُذعنَ الآذانُ اللاهية لصوتها، على ضَعفِه، وترضخَ الأعينُ المـُتعامِية لنور الحقّ ولو كان بصيصاً مُتهالكا.
وتوقّفتْ فجأةً ابتسامةُ الفخر من الاتّساع وتراجعت ككلّ جهودنا في العيش بسلام، ولُذتُ بالسكوت المحمّل بآلاف الأحاديث والأحاسيس.
في فلسطين، نُحارب حينا، نصمتُ حينا وننسى أحيانا. لا حَلَّ لدينا غير هذا الثالوث.
ولاحظ الطيف الوجوم في وجهي فقال: "وماذا جرى؟"
أبطأتُ بالردّ، لكنّي أجبت:
"حسبتُ نفسي بعيدا عن آلة الغدر الإسرائيلية لكنّها بلَغَتني، لأنَّ الشرَّ لا يميّز شيئا. كنّا نزرع الابتسامة والأمل، والمحتلّ لا تُعجِبه ابتسامتنا، أمّا آمالنا فتزرع الخوف والاضطراب في صفوفه. ولهذا فهو كيانٌ حقود، ثقبٌ أَسوَد يعترض سبيلنا للوجود.
"عُدتُ لأراقب عيون السماء البرّاقة، وأفعمني التأمّل الطويل بالهدوء. اختبرت شعوراً بالراحة، ورحتُ أتفكّر في مصيري كشهيد. ثمّ ساد السكون وانقطع كلّ شيء.
"لا أدري كم من الخيالات رأيتُ. مزيجٌ من ذكرياتي الماضية، يداعبني كالنّسائم الدافئة. أهازيج الجماهير وهُتاف المـُعجبين، صفير الحكّام، جوائز الدوريات، احتفاء أبناءِ الوطن بنا، والمسؤولين كذلك. كلّ شيء طفا على السطح من جديد وكأنّ ماضيَّ يودّعني. وبعد حفلة الوداع استسلمتُ للموت.
"فجأةً، بدأَت بعض الأصوات المـُبهمة تتسلّل إلى عالمي الصامت، تنساب بلطف ثمّ تتوقّف. أُصغي إليها فلا أجدها ثمّ تعود، وهكذا. ثمّ أخذ السواد يتراجع، عندما بدأت خيوطٌ من الألوان الزاهية بالرقص في سمائي، فيما يُشبه الشفق القطبي.
"أحسستُ وكأنّ الغرفةَ تهتزّ، واشتدّ الصوتُ، واختفى الظلام شيئا فشيئا أمام زحف النور.
"سَمِعتُ قهقهات طفولية بريئة، ترجّ الصمت في غيبوبتي وتحثّني على الرجوع. ساعدني قلبي الثاني، ذلك لأنّ للبشر كلّهم قلبٌ واحد، يمدُّ أعمارهم بالحرارة والحياة، أمّا نحن فلدينا قلبٌ ثانٍ واسمه فلسطين.
"يقولون: "فلسطين جرح الضمير الإنساني، وإسرائيل سرطانه" لكنّي لا آبه لما يقولون.
"فلسطين عندي: قلبٌ وأرضٌ وشمسٌ وأمٌّ وقضيّة.
"أيقظني نداء صلاح الدّين وعدتُ إليك يا فلسطين وما كانت غيبوبتي إلّا استراحة مُحارب".
◄ طه بونيني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
6 مشاركة منتدى
نداء صلاح الدّين, ولد عبد الله عبد اللطيف من الجزائر | 26 كانون الأول (ديسمبر) 2015 - 13:33 1
أعجبتني طريقة السرد و الفكرة الرئيسية روعة و مكمن القوة في القصة هو الخاتمة لقد وفقت في إبراز فكرتك بوضوح و عاطفة خالصة . فعلا ما هي إلا استراحة محارب
1. نداء صلاح الدّين, 26 كانون الأول (ديسمبر) 2015, 16:08, ::::: بونيني طه
شكرا صديقي عبد اللطيف على المرور الكريم والتعليق الجميل. يُروقني كثيرا أنّها أعجبتك لأنّك قارئ متطلّب وذوّاق.
نداء صلاح الدّين, هدى أبو غنيمة عمان الأردن | 26 كانون الأول (ديسمبر) 2015 - 18:45 2
الأستاذ طه بونيني قصة موفقة ومؤثرة نابضة بروح المقاومة النبيلة فالمقاوم حتى في غيبوبته يشحن روحه بطاقة كونية ليعود إلى فلسطين منتصرا للحياة والمستقبل .كل مقاوم هو صلاح الدين.مع تحياتي وتقديري .
نداء صلاح الدّين, عمر المختار من اجزائر | 26 كانون الأول (ديسمبر) 2015 - 19:24 3
كل مرة تكتب فيها تتدفق روحك المبدعة وذاتك المرهفةبسيل من المشاعر الصادقة معلنة عن أصالة انتمائك للجذور والتاريخ .. وبلغة شاعرية متميزة لامست شغاف كل قلب يهيم بحب فلسطين ويتوق إلى عودة الأرض والإنسان ..
أحسنت أنتقاء الموضوع وأبدعت في السرد ..تحياتي لقلمك الواعد.
1. نداء صلاح الدّين, 16 كانون الثاني (يناير) 2016, 18:32, ::::: بونيني طه
سلام إلى صديقي العزيز، لقد لخّصت القضيّة كلّها وإنّ من واجبنا أن نشارك إخواننا الهمّ والحمل الثقيل، وإنّها لمسؤولية عظيمة هي هذه القضيّة. ولكن الله يعلم ما في طويّتنا.
شكرا.
نداء صلاح الدّين, إيناس ثابت اليمن | 27 كانون الأول (ديسمبر) 2015 - 17:13 4
فلسطين عندي: قلبٌ وأرضٌ وشمسٌ وأمٌّ وقضيّة.
جملة أكثر من رائعة ومؤثرة وراقية، والكثير غيرها في النص الوطني الإنساني أيضا.
أبدعت أستاذ طه، لك كل التوفيق وكل عام وأنت بخير.
1. نداء صلاح الدّين, 28 كانون الأول (ديسمبر) 2015, 17:49, ::::: بونيني طه
شكرا على المرور اللطيف، من دواعي السرور أن أقرأ تعليقكم الجميل أساتذتي الكرام.
نداء صلاح الدّين, سمير - الجزائر | 28 كانون الأول (ديسمبر) 2015 - 19:07 5
قصة رائعة دام الله من امثالك
1. نداء صلاح الدّين, 16 كانون الثاني (يناير) 2016, 18:28, ::::: بونيني طه
شكرا لك أخي سمير على القراءة والتعليق.
نداء صلاح الدّين, يوسف -الجزائر | 30 كانون الأول (ديسمبر) 2015 - 08:49 6
أولا يا ليت أحفاد الجنرال الفرنسي "هنري غورو" القائل :ها قد عدنا يا صلاح الدين ,يقرؤون هذه القصة الرائعة ليعلموا أن غدا لناظره قريب.
ثانبا يقول الشاعر:إني رأيت الناس من نال قدرة أبى أن يراه الناس ليس بقادر.فاعلم يا سيد طه أنك تأبى أن يراك الناس عاجزا عن المزيد من العطاء.فقد نلت قدرة تسمح لك بالتألق.وعلى كل أنت مدين لقرائك بالمزيد من قصصك في المستقبل. فبورك فيك.