رابحي رضوان - المغرب
عرض لكتاب تاريخ أوروبا في العصور الوسطى
كتاب "تاريخ أوروبا في العصور الوسطى" للمؤرخ المصري الراحل سعيد عبد الفتاح عاشور
من الصعب جدا أن يتم حصر كل ما كُتب حول التاريخ الأوروبي الوسيط، ومن غير المفهوم أن يظل الباحثون العرب بمنأى عن هذه الحركية، حيث إن ما كتب عن الفيوادالية باللغة العربية، أو ما تم تعريبه من مؤلفات أجنبية حولها، لا يمثل سوى نسبة هزيلة جدا بالمقارنة مع الكم والهائل من الإصدارات التي تناولت التاريخ الإسلامي مثلا. وحتى المؤلفات التي كُتبت حول الموضوع - على ندرتها – فقد انبرت في أغلبيتها لمعالجة الأثر العربي الإسلامي على أوروبا.
من المعلوم أن المؤرخين المشارقة كانوا سباقين إلى التأليف في تاريخ أوروبا، وقد شد انتباهي الإقبال الشديد على الكتابات المشرقية التي تناولت تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، فاخترت أن أقوم بإطلاله سريعة على أحد الكتب الأكثر رواجا بين الطلاب والباحثين، يحمل عنوان " تاريخ أوروبا في العصور الوسطى" للمؤرخ المصري الراحل سعيد عبد الفتاح عاشور (1922- 2009م)، الذي درس مادة التاريخ الأوروبي الوسيط في كبريات الجامعات المشرقية، حتى حاز على لقب "شيخ المؤرخين العرب. وخلّف عددا من الدراسات في الموضوع نذكر منها:
قبرص والحروب الصليبية، صدر عن مكتبة النهضة بالقاهرة سنة 1957؛ أوروبا في العصور الوسطى، ط. 1، مكتبة النهضة، القاهرة، 1958؛ مصر في عهد دولة المماليك البحرية، 1959؛ النهضات الأوروبية في العصور الوسطى، 1960؛ المدنية الإسلامية وأثرها في الحضارة الأوروبية، 1982.
وأعمل على تحقيق أهداف هذه ألإطلاله السريعة عبر الإجابة عن التساؤلات التالية: كيف تناول الراحل عبد الفتاح عاشور، كأنموذج للمؤرخين العرب والمسلمين، تاريخ جار ثقيل نادرا ما وضعت الحرب أوزارها بينه وبين العرب والمسلمين؟ وإلى أي حد توفق في التحليل الموضوعي لمحطاته وأحداثه وتحولاته الكبرى؟
ملخص الكتاب
قسم عاشور الكتاب إلى اثني عشر بابا، استهلها بالحديث عن بوادر الضعف التي بدأت تظهر على روما خلال القرون الميلادية الأولى، مع اندلاع الثورات الداخلية على مستوى الولايات، وتزايد الأخطار الخارجية (فُرس ثم جرمان)، طارحا آراء وتفسيرات المؤرخين لعوامل سقوط الإمبراطورية بعد فشل كل محاولات الإصلاح.
أما الباب الثاني المعنون بـ "المسيحية" فقد أطلعنا فيه عاشور على السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي ظهرت فيه الديانة المسيحية، وعلاقتها بروما وباقي خصومها (اليهود، المذاهب الفلسفية، إلى آخره)، ثم عوامل انتشارها واحتضانها من طرف الإمبراطورية، وتطورها حتى ظهور مرتبة البابوية وتزايد نفوذها بالموازاة مع السلطة السياسية الرومانية.
كانت الشعوب البربرية موضوع الباب الثالث، حيث أفرد الكاتب عدة صفحات للحديث عن أهم قبائل الجرمان وغيرها من الشعوب التي أحاطت بالعالم الروماني من جميع النواحي، كما تناول بالدرس والتحليل حياتها الاجتماعية والاقتصادية، وتحركاتها ضد الإمبراطورية لتتقاسم أطرافَهَا مؤسِّسة عددا من الدول (الفرنجة والقوط وغيرهما).
خصص الكاتب الباب الرابع للحديث بإسهاب عن ظهور الإسلام، وتأثير الحضارة العربية الإسلامية في التاريخ الأوروبي الوسيط، وهو تأثير تناوله من جانبين: يتعلق الأول بتحطيم الوحدة الحضارية للبحر المتوسط، في حين يرتبط الثاني بموقع المسلمين الجغرافي المتميز بين ثلاث قارات، الذي سمح لهم بالقيام بدور الوسيط الفكري الذي نقل التراث الحضاري للشرق إلى أوروبا.
في الباب الخامس ناقش المؤلف علاقة الإمبراطورية بالبرابرة وبالمسلمين، وتناول بالتفصيل وضعية إيطاليا خلال القرون الميلادية الأولى بين ثلاث قوى: الجرمان المتوغلون داخل شبه الجزيرة الإيطالية، وسلطة البابوية المتزايدة بالتحالف مع رجالات الفيودالية، والدولة البيزنطية المنشغلة بحروبها مع الفرس والمسلمين، مما صعب من مهمة الدفاع عن إيطاليا.
أما في الباب السادس فقد انتقل عاشور إلى بسط أهم أسباب ظهور الديرية وتزايد نفوذ وأملاك البابوية خاصة بعد تحررها الفعلي من تبعيتها لبيزنطة مقابل دعمها الصريح "للإقطاع الأوروبي"[1] إلى حد التحالف مع الدول والإمبراطوريات الجرمانية في وسط وغرب أوروبا، وهي الكيانات السياسية التي أفرد لها الكاتب بابا خاصا هو الباب السابع من كتابه فتحدث عن ظهورها وتطورها وعلاقاتها الخارجية، مركزا على علاقاتها مع المسلمين مثل الاصطدام بين الجيش الإسلامي وجيش إمبراطورية الفرنجة في معركة بلاط الشهداء (Tour de boitiers ) سنة 732م، ثم تحالفها مع البابوية لتصبح أعظم قوة في غرب أوروبا (الإمبراطورية الجرمانية).
وعالج الكاتب في الباب الثامن موضوع تحركات شعوب الفايكينغ وغاراتهم على شواطئ شمال أوروبا أولا، ثم نشاطهم في حوض البحر الأبيض المتوسط وهجوماتهم على شواطئ الغرب الإسلامي وخاصة موانئ الأندلس، دون أن يغفل الجانب الآخر لهذه الشعوب وهو الإبداع الحضاري الذي مس كل الاقتصادية والدينية والأدبية، إلى آخره.
وعرج المؤلف في الباب التاسع على أحد هذه الشعوب التي أقامت دولة في فرنسا بعد غزوات القرنين التاسع والعاشر، وبالتحديد أسرة كابيه، وارثة حكم الملوك الكارولنجيين في شمال فرنسا، حيث مثلت فيه مصالح كبار الإقطاعيين. كما أشار إلى جنوب فرنسا الذي تميز بعدم ارتباطه بحكم أسرة كابيه، وانقسامه إلى عدة إمارات صغيرة (دوقية أكوتين، إمارة تولوز، برشلونة، وغيرها). وقد رصد عاشور في هذا الباب أهم محطات تاريخ فرنسا حتى سقوط حكم أسرة كابيه بداية القرن الرابع عشر.
وكان الباب العاشر فرصة للمؤلف ليطلعنا على أحوال الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي قامت في الجزء الشرقي من الأراضي التي كانت خاضعة للإمبراطورية الكارولنجية (ألمانيا وإيطاليا)، وعلى حروبها ضد غارات الفيكينغ والهنغاريين ثم البولنديين، وعلاقتها بالبابوية التي أثرت بشكل كبير على تطور الإمبراطورية وساهمت في نهايتها أيضا.
وخصص عاشور الباب الحادي عشر لتحليل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والدينية في إيطاليا المقسمة بين البيزنطيين واللمبارديين خلال القرن العاشر، وقيام دولة النورمان في الجنوب، وتجربة "القومونات" في القرن الحادي عشر، وحركة الإصلاح الكلونية، ثم إصلاحات البابا جريجوري السابع (1060-1108) خلال فترة بداية القطيعة والتصادم في العلاقة بين الإمبراطورية والبابوية.
وخصص الكاتب الباب الثاني عشر والأخير ليحلل أسباب الصراع الطويل بين القوتين أو "السلطتين": سلطة الإمبراطورية الزمنية وسلطة البابوية الدينية، الذي انتهى لصالح هذه الأخيرة، التي ستصبح رقما صعبا في توازنات مجتمع أوروبا الوسيط، حيث ستسيطر على المشهد الذي ستظهر عليه القارة الأوروبية إلى حدود نجاح حركات الإصلاح الديني ثم الثورات البورجوازية.
مـلاحظـات
يعد عبد الفتاح عاشور أحد أبرز المؤرخين العرب الذين درسوا التاريخ الأوروبي الوسيط، وقد برع في طرح ومعالجة أهم القضايا والمشكلات التي طرحتها هذه المرحلة التاريخية المهمة. غير أن هذا لا يمنع من إبداء بعض الملاحظات حول منهج ومحتوى الكتاب.
إن المنهج المعتمد في الكتاب يعتمد السرد والحكاية أكثر من غيرهما كأسلوب لمعالجة تاريخ متحرك وغني بالتحولات التي أثرت على كل العالم، حيث ركز الكاتب على تاريخ الشخصيات الكبرى كالملوك والأباطرة وكبار رجال الدين، وعلى التاريخ السياسي، اللهم بعض الفقرات القصيرة التي تناولت بشكل عرضي مختصر تاريخ أوروبا الاقتصادي والاجتماعي والثقافي خلال العصر الوسيط.
من الواضح أن المناخ التاريخي-السياسي الذي أُلِّف فيه الكتاب (ظروف التجربة الناصرية والصراع العربي الإسرائيلي- الغربي) قد انعكس بشكل بالغ على بعض فصوله، إذ يبدو تأثر الكاتب "بالقومية العربية" وتعصبه للإسلام جليا من خلال حرصه على إقحامهما بشكل قسري، بمناسبة وبغير مناسبة، في التاريخ الأوروبي، بل نجد في الكتاب فقرات طويلة تبدو خارج الموضوع المدروس، فعلى سبيل المثال يقول الكاتب:
"على أن أثر العرب والإسلام في تاريخ العصور الوسطى لا يقف عند التغييرات السياسية التي أحدثوها في أوضاع العالم المعروف آنذاك، وإنما يبدو هذا الأثر أشد ما يكون وضوحا في الميدان الحضاري، وهنا نجد الحضارة العربية الإسلامية تقوم على دعامتين أساسيتين هما اللغة العربية والإسلام ... وما زالت السرعة التي انتشرت بها اللغة العربية والديانة الإسلامية تعتبر لغزا محيرا لكثير من المفكرين"[2].
ويحتل هذا الخطاب المتأثر بالذاتية مساحة واسعة من الكتاب، حيث ينحاز عاشور بشكل واضح للانتماء العرقي والديني مستعملا وسائل متعددة من بينها توظيف فقرات مترجمة من طرف الكاتب منسوبة إلى مؤرخين أوروبيين يتم التعامل مع إنتاجاتهم حول الموضوع بطريقة انتقائية، وكمثال يقول عاشور:
"وقد أجمع الباحثون أن الحضارة الإسلامية كانت أعظم حضارة شهدها العالم في العصور الوسطى، فالعرب لم يكونوا مثل غيرهم من العناصر البربرية من جرمان وغير جرمان الذين انسابوا داخل الإمبراطورية الرومانية، والذين لا تقترن أسماؤهم في التاريخ غالبا إلا بالهدم والتخريب"[3].
لكن ماذا لو قارننا بين هجمات الجرمان وبين الغزو الإسلامي لغرب آسيا ولشمال إفريقيا أو الهجوم الهلالي على المغرب؟
أقحم عاشور تاريخ الإسلام في الموضوع حيث خصص الكاتب بابا فريدا أطلق عليه اسم "الإسلام" في ثلاث عشرة صفحة يتحدث فيه عن تاريخ الإسلام بداية بالدعوة المحمدية وأخلاف النبي محمد (ص) من أصحابه، ثم الدولتين الأموية والعباسية، وغزوات المسلمين ضد الجيران الفرس والبيزنطيين وسيرة وأسماء القادة الميدانيين فيها، إلى آخره، حتى يظن القارئ أنه بصدد مطالعة كتاب عن تاريخ الإسلام.
تحامل الكاتب على اليهود وبنى استنتاجات تلصق بهم صفة المكر والخداع، حيث يقول عاشور:
"ويبدو من استعراض تاريخ مختلف البلدان الأوروبية في تلك الفترة أن هذه المعاملة السيئة التي لقوها من فيليب الرابع [كان الكاتب قد أشار إلى مصادرة أملاكهم وطردهم من فرنسا سنة 1306] لم تكن أمرا شاذا فريدا من نوعه، ذلك أن جشعهم وحبهم للمال وسيطرتهم على الحياة الاقتصادية دفعت ملك إنجلترا إدوارد الأول إلى طردهم أيضا من بلاده ومصادرة أملاكهم"[4].
كما يتهمهم بالمشاركة في كل عمل عدائي يمكن أن يُوَجّه ضد الإسلام والمسلمين، فقد أشار مثلا إلى دور اليهود في تمويل الحروب الصليبية دون الإشارة إلى مصدر الخبر.
هذه ملاحظات لا تنقص من قدر الكتاب وقيمته العلمية، ولا من الجهد الكبير الذي بذله في استقصاء المصادر والمراجع الأوروبية، ويبقى الراحل عبد الفتاح عاشور نجمة ساطعة في سماء المدرسة التاريخية المصرية والعربية.
= = = = =
الهوامش
[1] يستعمل عدد من المؤرخين المشارقة لفظ الإقطاع بدل الفيودالية التي تنطبق أكثر على المجال الأوروبي، للمزيد من التفصيل يمكن العودة إلى : محمد حبيدة، تاريخ أوروبا من الفيودالية إلى الأنوار، دار أبي رقراق، ط. 1أ الرباط، 2010، ص. 23.
[2] عبد الفتاح عاشور، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، دار النهضة العربية، بيروت 1976، ص 104.
[3] المصدر نفسه، ص. 105.
[4] المصدر نفسه، ص. 241.