إيناس يونس ثابت - اليمن
بعد هذا وقبل
بلغني عنك أنك حاني الظهر، ضعيف العظام من حمل الهموم، وزادها حمل الحقيبة على ظهرك سائرا بلا اتزان، مودعها ناويا هجرها مُقسما ألا تعود.
خاصمتها وهجوتها في القصائد ونثر الكلام، وما لبثت عائدا تائبا على يديها، كالمجنون، ناظما في هواها أعذب قصيدة، وأجمل غزل لم يُقل حتى في أجمل النساء، مُسرا لها بمعشوقتي الأزلية، فمدتْ لك الأحلام كاسفة مزينة الوعد بغد أجمل.
و بلغني أيضا حبك لها حد الصبابة من بين جميلات متعطرات بتخايل وكبرياء، ومدللات بحسن من رب السماء، وأخر حزينات منكهات بحلاوة البساطة وقصص لا تُنسى.
أما هي فحسناء عليها نور من الله كأن الملائكة تحفها، أقامت في القلب وتاهت في الفكر، ولا عجب، فالقلب قبر الإنسان وأرض بعثه وحقيقة الدنيا وصورتها، وما الدنيا إلا بضع منه مغروسة فيه، فمتى ما أحب القلب شيئا رآه الدنيا وما فيها، ومتى فارقه كانت الدنيا خواء بلا معنى.
وما حسناؤك، وأي مدينة، إلا قطعة من الدنيا وجزء من أجزاءها الكبيرة وفلسفتها العظيمة، مقيمة بحكم هذا في القلب، تشابه البشر بارتباط الفؤاد بها واختلاف وجه وروح واحدة عن الأخرى، ومرأى ذلك في حيطانها وأجوائها حتى الحصى وأدق تفاصيلها، مُلقية على سكانها من روحها القليل، تُؤثّر بهم وتتأثر فتكوّن عاشقيها ومُرتاديها ورساميها وشعرائها وفنانيها ممن رأوا فيها ما لم يره غيرهم.
وكأن لكل مدينة شمس ومشرق ومهبط لليل ومطلع للنجوم مختلف وتربة لا تشبهها تربة.
قد يكون لتاريخها وشعوبها القديمة دور، ولسكانها الحاليين ودرجة ثقافتهم وحبهم وانفتاحهم للحياة أيضا دور في صنع سرها وسحرها الخاص وعزف سيمفونيتها المنفردة، فتستريح لواحدة ماضيا في طرقاتها سائحا شاكرا لا تتأذى عيناك بعيب فيها بل تغدو بساطتها متعة للعين.
ويشدك الشوق لصاخبة متناغما مع وجهها الصارخ، متناسقا مع ضجيجها، تزيد حركتها السريعة لك اجتذابا وتشبثا بالحياة.
وتعشق مدينة لزرقة تعلوها زرقة، وموج لا ينتهي وهدير كالأجراس تطرب له النفس ويرتاح بحضرته الفؤاد فترنو الروح للخلود فوق فضائها الواسع، أو تصلي العين لجميلة متأملا خضرتها وقصة الورد ودعوتها للقلوب الرقيقة.
وتهفو النفس لمن احتضنت أصدق لحظة طُهر وأول نور تراه في الدنيا، وهدهدت لك بترانيمها فأغفتك، وروتْ أول تعثر لخطاك على راحتيها لتثمر أول حرف، وتطير لمن هي الدواء إذ حلّ فيك الداء فتنسيك الهموم الثقال وتكون بلسما للروح وشفاء للجروح وترياقا للعليل، أو يسكن حلم لك بمدينة وقصة عشق لم تكتمل، أو قبر ضم عزيزا، فيعيدك الحنين إليها كلما هامت بك الذكرى.
وما عشق المدينة إلا عشق لأهلها، لمنزل حبيب وإقامة صديق، فمخلص واحد كاف لصب حبها في قلبك بكل تفاصيلها، شوارعها، مبانيها، ريفها وحتى لهجتها، فيشكل اسم المحبوب أو الصديق اسمها لتسبح في فلك القلب، ويشهد بهذا متيم ليلى إذ قال:
وما حب الديار شغفن قلبي = = ولكن حب من سكن الديارا
ومدن يأبى القلب أن يفتح لها بابا، فلا تحفل فيها لمطلع شمس، وتظل كالغريب طارحا السعادة والترنم.
وأجد وإياك في المدن ما يشبه أرواحنا المتعبة المطحونة المدمرة بالخيبة والمكتنزة بالآهات والمطعونة من القريب والغريب كظبي في غابة غنّاء تقاسمته جموع الذئاب والضباع من أهل غابته وأردوه قتيلا فاحتفلوا بموته ثم اختلفوا على قسمته ثم أشعلوا حربا لمن يحصل على النصيب الأكبر.
أو كمرأة ذات جمال ومال وحسب، كثر خطابها من علية القوم واختصموا عليها لا حبا لها وصونا، بل رغبة بالامتلاك وطمعا في مالها وجنونا بالعظمة، فورّثها والدها لعلية القوم كما يورّث الماشية، وغاب عن عقله ترك الخيار أمامها مفتوحا لاختيار الأخير والأفضل وإن قل ماله وامتلأ عقله حكمة وعلما وكياسة وفطنة وقلبه حبا لها ولأهلها، فنالها أسوأهم حالا وأشرهم بطانة، فنهب مالها وران على قلبه كما ران قلب الكافر عن ذكر ربه، وما منحها حبا وعطفا، فشاخت المسكينة بين يديه، ونجد السالية عن كل هذا، الحالمة تغني لنفسها بغد أفضل.
وبلغني صنعك مدنا في الخيال كما أصنع لحظة الأمل من الواقع والرغبة في الهروب من ويلات الأحزان والحروب والدمار لنبني الآمال والأحلام الذهبية فيها ولا نغرس إلا بذور المحبة والفضيلة والتعايش، ونغلفها باللون الأبيض و نعقده في خيالنا ونتذكره كلما اشتد الظلام حولنا.
وبعد هذا وقبل هلّا بلغك: حسناءك وغيرها إما نحرقها عن بكرة أبيها كحرق نيرون لروما، فتئن أنين الشاكي الصامت، أو نرفعها بفكرة من قلب طموح بارع وعمل مخلص صادق، فتنطق شاكرة بتبرعم الزهر، واحتضانها للعصافير الصغيرة، وانشراح صدرها، وبثها للنسائم العليلة، وسقوط زخات المطر لتعلو، فنعلو.
◄ إيناس ثابت
▼ موضوعاتي
3 مشاركة منتدى
بعد هذا وقبل, إبراهيم يوسف - لبنان | 29 آب (أغسطس) 2015 - 08:48 1
إيناس تابت- اليمن
هذه الرمزية من خارج سياق الموضوع.. إن هي إلاَّ جانب من جوانب التعبير المبطّن عن جور السلطة، في فترات معينة. أكثرها لا زال قائما حتى اليوم، وبعض السلطة السياسية بات لا يحرجها المباشر إذا كان فيه ما يعمل على "تنفيس الناس".
أما الرمزية في الجانب الآخر، وتخطي واقع الأشياء لإدراك الجوهر عن طريق توظيف الوجدان، كما في أحوال الناس العاطفية التي لا تحظى بعناية واهتمام الجميع.. لكنها معك تَوَّسَّلْتْ بكفاءة ملحوظة التعبير عن أجمل العواطف، والأحاسيس المرهفة الغلابة.
.
1. بعد هذا وقبل, 30 آب (أغسطس) 2015, 16:57, ::::: ايناس ثابت اليمن
أستاذ إبراهيم يوسف
شكرا لنقدك الدقيق والعميق.
مرورك تكريم لي.
لك أجمل تحية.
بعد هذا وقبل, جليلة الخليع /المغرب | 1 أيلول (سبتمبر) 2015 - 20:00 2
هنا بين المدينة التي اكتست ثوب المعشوقة ، والوجع الذي اكتظت به عيون الحروف ، كانت اللغة تذرف رمزيتها بإتقان مشبع بالتألق فتترك القراءة تشعب مساراتها إلى حيث أصابها الإدراك.
غاليتي المبدعة إيناس يونس ثابت، للغتك نكهة خاصة ، يجعل للمتعة طقوسا غير التي اعتدناهاا.محبتي أيتها الرائعة ، ودام تألقك.
1. بعد هذا وقبل, 2 أيلول (سبتمبر) 2015, 16:21, ::::: ايناس ثابت اليمن
العزيزة جليلة
شكرا لتعليقك الجميل كأنتِ، التشجيع من كاتبة قوية مثلك يدفعني للإستمرار.
كل المحبة الصادقة من القلب لكِ.
بعد هذا وقبل, فنار عبد الغني - لبنان | 2 أيلول (سبتمبر) 2015 - 16:52 3
أستاذة ايناس ثابت
تحياتي لك ولاسرة عود الند
قديما شبه الفارابي في فلسفته المدينة بالرئيس، وربط صلاحها وهلاكها بصلاحه وهلاكه،وانت شبهت المدينة بالارواح المتعبة، أعجبني ذلك ،أيضا بالمرأة الحسناء المهضومة الحقوق ، ابتكار جميل.هدف القصة أثار شجوني. نرجو من الله أن يحمي جميع المدن العربية.
1. بعد هذا وقبل, 4 أيلول (سبتمبر) 2015, 20:31, ::::: ايناس ثابت اليمن
أستاذة فنار
شكرا لمرورك اللطيف وتواجدك الطيب، ويسعدني أن النص نال استحسانك.
لك كل الشكر وصادق المودة.