د. فاطمة الزهراء صادق - الجزائر
جغرافية اللغة ونظم المعلومات
اتّسم الدرس اللغوي بطابعه الإنساني، لكونه يتناول الظواهر المرتبطة بالواقع اللغوي، هاته الظواهر التي تبرز من خلال النشاط الذي يمارسه الإنسان، عندما يتواصل مع غيره تواصلا لغويا، مما جعله محط اهتمام الباحثين في حقل الدراسات اللسانية الحديثة التي تنهض على التوصيف والمعالجة العلمية لظواهر اللغة، وربطها بأحدث الوسائط التكنولوجيات الحديثة، من هنا ارتأينا أن نلتفت إلى إحدى هاته الدراسات الميدانية التي تعالج الواقع اللغوي من وجهة جغرافية تصقله بمعارف وتقنيات مستهدفة ومنظمة تنظيما محكما.
سنحاول من خلال هذا كله مقاربة تقنيات نظم المعلومات من أجل استحداث قاعدة بيانات جغرافية تلامس واقع معرفي مع تحديد مواقع للتنوع اللغوي. من هنا كان لنا أن نطرح الأسئلة التالية:
= ما مدى إسهام اللسانيات التطبيقية في تنمية مواقع النظم اللغوية؟
= ما دور السياسة اللغوية في تنظيم استخدام تنوعا لغويا يتماشى والتنوع الجغرافي؟
اجتماعية اللغة
تكتسي اللغة أهمية بالغة في الوسط الاجتـماعي، إذ يشكل كل حدث لغوي ظـاهرة اجتـماعية عرفية، يمارسها الأفراد المتحدثين بها بلهجات مختلفة، تعيش في منطقة جغرافية واحدة، تسعى إلى ربط أواصر التفاهم والتواصل بين أفراد المجتمع الناطق بها.
وللغة وظيفة رئيسية لا تكمن في كونها الوسيلة المثلى للاتصال والتفاهم والتعبير لتحليل السلوكي اللغوي فحسب بل ينبغي أن ننظر إليها على أن لها وظيفة اجتماعية، وطريقة من العمل، تتمثل في ارتباطها بالجماعة[1].
فهي منظمة عرفية اجتماعية، تشتمل على عدد من الأنظمة المتداخلة والمتكاملة فيما بينها، تتألف هذه الأنظمة من مجموعة من "المعاني" التي تعبر عنها مجموعة من الوحدات التنظيمية "المباني" وتربط بينها طائفة من العلاقات، وتتميز عن بعضها بفروق (قيم خلافية) حتى يؤمن اللبس."
علم اللغة ومجالاته التطبيقية
شهد البحث اللغوي منعطفا حاسما في مسار الدراسات العلمية الحديثة، التي كانت تصب اهتمامها على دراسة الحقائق العلمية و الأهداف العملية المعيارية، مما أتاح لعلم اللغة التطبيقي أن يستثمر نتائج ما توصلت إليه الدراسات النظرية ومن ثم إلى وضع الأساليب والإجراءات التي تُخول له أن يحول هذه الحقائق العلمية المجردة إلى استراتيجية مستهدفة تشمل بناء مخطط تعليمي، يتماشى و كفاءات المعلم، واختيار الوضعية اللغوية، وطرق تدريسها، والاستعانة بوسائل ومهارات لغوية وغيرها من الأساليب والتقنيات التي يستعين بها علم اللغة التطبيقي في مجال تعليم اللغة[2].
أضحى علما وسيطا يمثل جسرا، يربط العلوم التي تعالج النشاط اللغوي الإنساني، كعلوم اللغة، والنفس، والاجتماع، والتربية...الخ، مفاد ذلك أنه يهدف إلى تجسيد الواقع اللغوي باستناده إلى توظيف الأسس العلمية النظرية لهذه العلوم[3].
ومن ثم فإن علم اللغة التطبيقي ليس تطبيقا لعلم اللغة، وليس قائم بذاته، وإنما هو حقل ميداني ذو أنظمة علمية متعددة، يستثمر نتائجها في تحديد الأحداث اللغوية وضبط الحلول لها[4].
ما إن اتسعت دائرته وتعددت فروعه ومجالاته، حتى أضحى يضم علم اللغة الاجتماعي وعلم اللغة النفسي، وعلم اللغة البيولوجي، وعلم الأسلوب، وعلم اللغة البيولوجي، ونظرية المعلومات[5].
علم الاجتماع التطبيقي والجغرافية اللغوية
تشغل اللغة حيزا اجتماعيا، تجري على لسان شعب واحد أو أمة واحدة، تتعدد وتتنوع مستوياتها تبعا لتعدد الناطقين بها وتنوع ثقافتهم، وطبقاتهم الاجتماعية وتباعد الفوارق الزمانية والمكانية والمهنية بينهم.
والفضل يعود إلى الاتجاه البنيوي في تبيين هذا الاختلاف من خلال نطق الأصوات، ونوع المفردات والتراكيب. بحكم أن الاختلاف في النظم اللغوية واقع بين أفراد الشعب الواحد.
ومن هنا تجلت أهمية الدراسات الاجتماعية للغة، ليقوم علم اللغة الاجتماعي برصد وتوضيح العلاقة بين اللغة والمجتمع التي تظهر في تعدد النظم والمستويات اللغوية، التي تتألف بين أفرادها على شكل لغات أو لهجات، وتحديد الجماعات التي تستنطقها[6].
تستدعي دراسة القضايا اللغوية في ضوء العلوم الاجتماعية اتصال البحث اللغوي بعلوم متباينة، كعلم الاجتماع، علم النفس، علم الجغرافيا، علم التربية، وغيرها.
لعل أبرزها وأوسعها هو علم اللغة الاجتماعي أو ما يعرف "باللسانيات الاجتماعية"، هو ذلك العلم الذي يبحث في اللغة بوصفها طاهرة اجتماعية لها نشوؤها وتطورها وتفرعها إلى لهجات متعددة، ويتناول تطورات اللغة من وجهة نظر سكانية على جميع مستويات التحليل الصوتية والنحوية والدلالية[7]. يشمل دراسة اللغة في علاقتها بالمجتمع[8].
صار علم اللغة الاجتماعي اليوم عصب الدراسات اللغوية وصلبها، وإن الدراسات المستقبلية ستتخذ معظمها طابعا لغويا اجتماعيا[9].
لا تقتصر هاته الدراسات اللغوية على رصد واكتشاف النظم الاجتماعية، بل تتعداها إلى البحث عن أهم الفروع التي تمت بصلة وطيدة بالدراسات الميدانية، ذلك أن مشكلة علم اللغة المستقبلية ستكون الدراسة التجريبية لوظيفة الكلام الاجتماعية[10].
تتجلى أهمية علم اللغة الاجتماعي في وضع الحلول الكفيلة لتخطي المشكلات اللغوية التعليمية، والعلاقات الاجتماعية في المجتمعات المتقدمة، لما للغة من دور فاعل في الإفصاح عن العلاقات الاجتماعية والثقافية للمجتمع[11].
جغرافية اللغة
من المسائل اللغوية الاجتماعية ذات الصلة بالجانب الجغرافي: المسح اللغوي للمناطق المدروسة، هي ظاهرة اجتماعية لغوية، تستهدف تحديد مواقع تنوع اللغات واللهجات وتعايشها في منطقة جغرافية واحدة، مع مراعاة أسباب التنوع اللغوي بالتنوع الجغرافي، وتخطي اللغات وللهجات للحدود الطبيعية وانتشار الأنماط اللغوية. إلى التخطيط في وضع خرائط جغرافية أو أطالس لغوية، تبين توزيع انتشار اللغات واللهجات في مناطق تواجدها، وتمثيلها بتوظيف وسائـط إعلامية حديثة تساعد على تسيير وضبط مواقع النظم اللغوية وتنوعها بشكـل آلي، محكم ومنظم.
تعود الإرهاصات الأولى لعلم اللغة الجغرافي إلى الحرب العالمية الثانية، حينها أثير الجانب الجغرافي من اللغة، مما أدى إلى إنشاء مكتب لتحليل الوسائط، ووضع المناهج الدراسية العلمية لتعليم اللغات لأفراد القوات المسلحة[12].
وما يهمنا من حلقة براغ المعروفة بنظرية «التقابل اللـغوي"، أنها ركزت على نقطة مهمة أفـادت بأن: " اللغات تؤثر بعضها في بعض عن طريق الاتصال الجغرافي والتاريخي، مما يجعلهما تتطور معا بطرق متشابهة"[13].
نتيجة الاحتكاك والتزاوج الثقافي والحضاري لأمة من الأمم تتأثر اللغات يبعضها البعض في جميع المجالات، بحكم عدة عوامل تكون سببا في نموها وازدهارها ورفعها إلى مصاف الدول المتقدمة، التي تسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة، وذلك مرهون بمواكبتها للتطور في وسائل الإعلام والاتصال العالمية.
تقتصر مجمل المهام التي يقوم بها جغرافيو اللغة على حصر كيفية الأداء، بحسب التوزيع الجغرافي، والنظر في رضع خرائط خاصة بالنطق مثلا: خريطة خاصة بانتشار التراكيب، وهكذا يساعدنا كثيرا على معرفة مدى تكلم الناس باللغة العربية، كما تساعدنا على معرفة التلاميذ ونطقهم العربي حسب المناطق التي نشأوا فيها حتى يمكن تكييف عليما حسب الفطرة التي نشأت عليها، ومعرفة ميولهم اللغوية حتى تسهل عليهم النطق بها[14].
مجــالاتها التــطبيقية
الأطلس اللغوي
يسهم الأطلس اللغوي في إجراء مسح لغوي شامل للمناطق التي تولي اهتماما كبيرا للاستخدام الأمثل لكل من اللغة واللهجة حسب نسبة سكانها ونموها الديمغرافي وما تلحقه من ركب في التقدم الحضاري والاقتصادي لمستعملين لأهلها[15].
ما هو إلا أداة فعالة تستقطب كم هائل من المعلومات عن سكان أو متحدثي أية لغة في أية منطقة تتواجد من أجل التخطيط في ضبط التعليم والتعلم السليم للنظم اللغوية حسب موقع انتشارها، لغة كانت أو لهجة.
التخطيط اللغوي
هو نشاط اجتماعي لغوي موجه يتحكم في ظروف استخدام اللغات في المجتمع، إذ يسهم في توجيه الاستمرار والتغير في النظم الاجتماعية، بما فيها اللغة التي يتم التخطيط لها، كما يسهم في تطوير المواقع الوظيفية الجديدة للتنوعات اللغوية والتغيرات البنيوية من أجل تحقيق الأغراض الاجتماعية، والحفاظ على الهوية الاجتماعية والحقوق اللغوية، والموروثات الثقافية[16].
كما يهدف أيضا إلى إعداد الضبط الهجائي، والقواعد اللغوية وقاموس لإرشاد الكتاب والخطباء في مجتمع لغوي غير متجانس.
تؤكد الدراسات أن الإعداد للأطلس اللغوي لن يكون إلا مرشدا إلى اللهجات الحية للغة ما، ما يثبت أن ظهوره ارتبط بمحاولة إثبات التنوع اللانهائي للغة وعدم خضوع اللغة لمعايير محددة في تغيراته الصوتية، حينها التفت علماء اللغة المحدثون إلى مهمة إثبات فكرتهم عن طريق التخطيط لعمل خرائط لهذه اللهجات، لما له من صلة تمت علماء اللغة الجغرافي بمعلومات مفيدة عن مراكز تواجد اللغات في العالم وعدد المتحدثين بها.
نظم المعلومات
تعد نظم المعلومات الجغرافية من التقنيات التي تشغل حيزا بارزا في مجال التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والتي يشهد نطاق استخدامها اتساعا مستمرا وتحظى باهتـمام متزايد من قبل مستخــدمي هده التقنيات كأداة قوية وفعالة لإدارة ومعالجة، وعرض المعلومات ولدعم عملية اتخاذ القرارات في مجالات عديدة منها النقل، الصحة، التسويق الجغرافي، الزراعة وتهيئة الإقليم، إدارة البيئة والموارد الطبيعية.
وتتنوع البيانات التي تتم معالجتها في ظل نظم المعلومات الجغرافية لتشمل مجالات عديدة يمكن تصنيفها إلى نوعين رئيسين: معلومات جغرافية وبيئية؛ ومعلومات تخص السكان.
= معلومات جغرافية وبيئية: كبيانات تحديد المواقع والإحداثيات الجغرافية وبيانات كفتوغرافية، وبيانات الخرائط الطبوغرافية وبيانات متعلقة بالموارد الطبيعية وبالأنظمة البيئية.
= معلومات تخص السكان: معلومات اقتصادية اجتماعية، العمران، النقل والاتصالات، الصحة، صناعة، تجارة.
أمام التدفق المتراكم والكم الهائل من المعلومات في كافة المجالات المتباينة، خطت الثورة المعلوماتية خطوة إيجابية في مسار التخطيط وتطوير المناهج؛ تتفق مع التجارب الدولية المتقدمة في بناء برامج تدريبية وفق أساليب علمية حديثة تحاكي متطلبات الواقع الاجتماعي المستهدف، بحيث تتوافق الرؤية العلمية لظاهرة ما مع الواقع العملي لها، ليخرج في النهاية بنظرة متكاملة لبرنامج تدريبي أكثر التصاقا بسوق العمل، منه إلى تحقيق التنمية المحلية أو أكثر واقعية في تحقيق متطلباتها الأساسية.
تهتم تقنية نظم المعلومات بالعلوم الجغرافية، ما هي إلا قاعدة بيانات، تقوم بجرد وفهرسة المعلومات إلى تحزين وتبادل المعلومات من حيث النوع والكم دون إمكانية ربط المعلومات مع موقعها الحقيقية على سطح الأرض، إذ تتيح نظم المعلومات الجغرافية عملية ربط المعلومات مكانيا مع إمكانية التحليل المكاني للقدر الهائل من المعلومات، بمجرد وضع المؤشر أو النقر على أي مكان جغرافي في الخريطة الإلكترونية، ما من ثانية تمر حتى تبدأ قاعدة المعلومات بتزويدنا بأكبر قدر من المعلومات مثلا: عرض اسم المنطقة المدروسة، موقعها الجغرافي، المساحة الإجمالية، الكثافة السكانية، نسبة المتحدثين بلغات و لهجات متباينة في هاته المنطقة ،و في مناطق أخرى مجاورة لها، إلى إبراز مدى ارتباط التنوع الجغرافي و تأثيره على الواقع اللغوي.
نجاح هاته التقنية الإعلامية مرهون بنجاح البرنامج التدريبي الذي يسقط على المسح المكاني للواقع الجغرافي المدروس.
= = = = =
الهوامش
1= محمود سعران، اللغة والمجتمع، طرابلس، 1985 ص 16 وما بعدها.
2= عبده الراجحي، علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية، دار الثقافة، ص 11-12.
3= بروان دوجلاس، أسس تعلم اللغة وتعليمها، تر. عبده الراجحي وعلي أحمد شعبان، بيروت، دار النهضة العربية، 1994، ص 222-224.
4= عبده الراجحي، علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية، ص 13.
5= R. Hartmann & F. Stork, Dictionary of language and linguistics. New York: John Wiley & Sons, 1972, p.17.
6= كريم زكي حسام الدين، أصول تراثية في علم اللغة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، 1993، ص 101.
7= مازن الوعر، اللسانيات والعلم والتكنولوجيا، اللسان العربي، العدد 22، 1983، ص 18.
8= هدسون، علم اللغة الاجتماعي، تر. محمود عياد، ط1، دائرة الشؤون الثقافية العلمية، بغداد، 1987، ص 17.
9= هادي نهر، علم اللغة الاجتماعي، ص 54.
10= م. م. لويس، اللغة والمجتمع، تر. تمام حسان، القاهرة، 1959، ص 281.
11= هادي نهر، علم اللغة الاجتماعي، ص 26.
12= ماريو باي، تر. صلاح العربي، لغات البشر أصولها طبيعتها وتطورها، القاهرة، 1980، ص 12.
13= التواتي بن التواتي، مفاهيم في علم اللسانيات، دار الوعي، ط2، 2008، ص 41-42.
14= أحمد الشيخ عبد السلام، مقدمة في علم اللغة التطبيقي، مطبعة الجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا، 2001، ط1، ص 141.
15= عبد الفتاح عفيفي، علم الاجتماع اللغوي، دار الفكر العربي، القاهرة، ص 199.
16= ماريوباي، أسس علم اللغة ، عالم الكتاب، 1998 ، ط8، ص 132.