عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 10: 108-120 » العدد 110: 2015/08 » كلمة العدد 110: توظيف الواقع في الروايات

عدلي الهواري

كلمة العدد 110: توظيف الواقع في الروايات


د. عدلي الهواري ناشر مجلة عود الندهناك فئة من الروايات تسمى واقعية. وهذا التصنيف لا يعني أنها تقرير عن واقع، أو أن شخصياتها واقعية، وأن الرواية سجل لحياة شخصيات الرواية.

ما أود الحديث عنه هنا هو توظيف الواقع بشكل من الأشكال كأسلوب سردي، اعتقادا من الكاتب/ة أنه يساهم في سرد الحكاية ورسم صورة للواقع التي تدور فيه. من الأمثلة على ذلك، ويحدث في الأفلام كثيرا، استخدام مقطع من نشرة إخبارية تلفزيونية، كخبر وفاة شخصية أو استقالتها من منصبها.

عند الإكثار من توظيف هذا الأسلوب، أرى أنه يأتي بنتيجة عكسية، فهو يقتل السرد، ولا نعود نقرأ كلمات الكاتب/ة، وتتحول الصيغة الواقعية بالمعنى المذكور في البداية إلى واقعية التقرير الإخباري الذي نسمعه في الإذاعات ونشاهده على شاشات التلفزيون.

من الأمثلة على توظيف مقتطفات من نشرات الأخبار رواية "كم بدت السماء قريبة!" للروائية العراقية بتول الخضيري، فقد تكرر استخدام نشرة الأخبار في الرواية، فأثر ذلك سلبا على انسياب السرد ومتعة المتابعة.

الروائي المصري صنع الله إبراهيم وظف كثيرا عناوين الصحف والأخبار في رواية "بيروت بيروت". ونتيجة لتكرار الاستخدام تأثر السرد سلبا مثلما حدث في المثال السابق.

ونجد في بعض الروايات أحيانا حضورا لأحداث واقعية شاهدناها على التلفزيون أو تابعناها في الأخبار، أحيانا بشكل طبيعي لرسم خلفية لأحداث الرواية، وأحيانا لإعطاء الكاتب/ة رأيا فيها على لسان الراوي أو شخصية من الشخصيات.

في رواية "كم بدت السماء قريبة!" يستمر تسلسل الأحداث إلى أن تصل إلى الغزو العراقي للكويت، وتفجير آبار النفط وتلوث الشواطئ به. في تلك الفترة، كررت القنوات التلفزيونية عرض صور طائر بحري ملوث بالنفط. ومن شاهد هذه الصور كان وقعها عليه أكبر بكثير من القراءة عنها في الرواية.

في رواية "عابر سرير" للروائية الجزائرية، أحلام مستغانمي، هناك ذكر لغزو الكويت في سياق إظهار رهافة الحس الفني والجمالي، وكان ذلك من خلال إشارة الرواية إلى لوحات فنان عراقي يعيش في باريس كان يرفض بيع لوحاته عن البصرة، ولكنه وافق على وضعها في بيت امرأة كويتية تقدر الفن على أمل أن تضعها في متحف البصرة ذات يوم. ولكن بعد عام من ذلك، وقع غزو الكويت وصودرت اللوحات من بيتها. عند مقارنة الأمر بما تعرض له وطن وشعب في تلك المرحلة نجد أن رهافة الحس هنا في غير مكانها.

بشكل عام أقول: عندما توظف الرواية واقعا عايشناه، أو تابعناه عبر وسائل الإعلام، يكون التوظيف غير مؤثر، فالواقع حار وديناميكي أكثر مما يمكن لرواية أن تعيد تصويره. من الأمثلة على ذلك، مسألة تحدي مارغريت ثاتشر على زعامة حزب المحافظين البريطاني الذي تم بث بعض مجرياته، من ترشيحات ونتائج، على شاشات التلفزيون مباشرة.

بعد أن أزيحت ثاتشر عن زعامة الحزب، أعيد تصوير هذه الأحداث في دراما تلفزيونية، ولكن الفرق كان شاسعا بين سخونة الواقع وتأثيره على متابعيه، مقارنة بتأثير الدراما التلفزيونية.

ومن سياق السينما العربية، هناك أفلام عن شخصيات قديمة وأخرى عاصرناها. الاقتناع بأداء الممثل مرجح عندي أكثر في حالات الشخصية القديمة، كدور فريد شوقي في فيلم "عنترة بن شداد"، أو أحمد مظهر في فيلم "الناصر صلاح الدين". أما أحمد زكي في فيلم "أيام السادات"، مثلا، فليس له عندي التأثير نفسه، فقد شاهدنا السادات يخطب ويتحدث في مناسبات عدة، ولدينا صورة واضحة عن شخصيته وانفعالاته.

الروايات تكون مؤثرة أكثر عندما تأخذنا إلى مكان أو زمان لم نره ولم نعايشه. أما عندما تأخذنا إلى مكان نعرفه، فمن المحتمل ألا نتفق مع وصف الكاتب/ة للمكان. والرحلة ضمن رواية إلى مكان معروف لا تسمح للخيال بأن يرسم الصورة حسب تصوره لها، بل تبطل دوره لأن اعتماد القارئ/ة سيكون على الصور المحفوظة في الذاكرة.

أيضا العودة إلى أحدث رأيناها وعايشناها لإعطاء رأي فيها تجعل القارئ في وضع يمكنه من رفض رأي الكاتب/ة في الحدث. وهذا الموقف غير ممكن عندما يتعلق الأمر بواقع لا نعرفه.

الخلاصة إذن هي أن توظيف الواقع في الروايات يجب أن يتم التعامل معه بحرص شديد، أولا من منطلق الحفاظ على أسلوب الكتابة الخاص بالكاتب/ة؛ وثانيا، حرصا على انسياب السرد،؛ وثالثا، من أجل أن يتم نقل الواقع ومحاكمته أو تشريحه بشكل فني مقنع وممتع.

= = = = =

إبراهيم، صنع الله. بيروت بيروت. القاهرة: دار المستقبل العربي، 1984.

الخضيري، بتول. كم بدت السماء قريبة! بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1999.

مستغانمي، أحلام. عابر سرير. بيروت: منشورات أحلام مستغانمي، 2003.

غلاف رواية بيروت بيروت

D 25 تموز (يوليو) 2015     A عدلي الهواري     C 5 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • تحية طيبة د.عدلي الموضوع الذي أثرته هام ويستدعي الحوار حوله .برأي أن الواقعية تعني إعادة صياغة الواقع بصورة مؤثرةوخلق عالم مواز للواقع قبل سنوات استضفنا بتول الخضيري في الجامعة التي كنت أعمل فيهالمناقشة ((كم بدت السماء قريبة))والرواية كانت تعالج تشظي فتاة بين ثقافتين ثقافة الأم الأجنبية والأب العربي العراقي وكان اعتراضي على أن انجراف الفتاة لعلاقة غير مشروعةبدا لي غير واقعي وكأنه تلبية لدعوة المشروع الثقافي السياسي لاختراق المجتمع العربي وافتعال توظيف هذه الثيمة لترويج الروايات علما أن كثيرا من النساء الغربيات لسن مبتذلات وهناك معاناة إنسانية البعد بينهن وبين نساء العالم كله.الموضوع يستحق الحوار وحبذا لو كان موضوعا لملف .مع تقديري


    • تحية لك استاذ عدلي على الموضوع الرائع .. الذي وجدته يتوافق مع عدة اسئلة وجدتها تطرح نفسها في مخيلتي منذ كتبت نصي الاخير مفقود 67 .. والذي يسرد تسلسلا لواقع عايشناه ونعرفه جيدا ..فكم هو صعب على الكاتب التطرق لاحداث تاريخية اغلبنا عايشها ورغبته في عدم الوقوع في فخ التكرار او المقارنة مع اعمال اخرى ..و لكن يبقى اختلاف طرق معالجة الكاتب لتلك الاحداث في سياق قصته وتاثيره على مضمونها هو الفيصل .. مع احتمال نجاحه او فشله كما سبق وسردت في المقال ..وتعرضه للنقد في اغلب الاحيال .. الا انه مازال استثمار الاحداث الواقعية القريبة زمنيا وجعلها خلفية للقصص والروايات مغري للكاتب والقاري معا .. و سيستمر استثماره من الكتاب رغم مخاطره ..ولكن علينا الحذر كما قلت .. تحياتي لك

  • بارك الله جهودكم. اضافات جميله لكتابة القصص الواقعيه ونقاط منطقيه


  • موضوع توظيف الواقع فى الروايات موضوع هام جدا وخصوصا وان حضور الواقع ومدى تباعده وتقاربه يتدخلان في تحديد الأنواع السردية ولكن عندما يحدث العكس يكون التوظيف غير مؤثروانا اتفق مع حضرتك أن توظيف الواقع في الروايات يجب أن يتم التعامل معه بحرص شديد، أولا من منطلق الحفاظ على أسلوب الكتابة الخاص بالكاتب/ة، والثاني حرصا على انسياب السرد، وثالثا، من أجل أن يتم نقل الواقع ومحاكمته أو تشريحه بشكل فني مقنع وممتع.
    دمت مبدعا دكتور عدلى
    بالتوفيق الدائم


  • القدير د.عدلي الهواري ،أثرت هنا مموضوع توظيف الواقع في الروايات، فالقارئ لايحبذ أن تصير الرواية تقريرا لما يعايشه ، أوابتعادا مجنحا عن محيطه، يريد أن يرى في الرواية صورة مماثلة وللسرد دوره الهام الذي يمنح للرواية مسارات أخرى محبوكة بخطوط الخيال.
    شكرا على الطرح القيم وكل التقدير والود.


في العدد نفسه

بائع العرقسوس: مهنة شعبية من الزمن العضوي

موسم الحوريات ...

اللغة العربية في الثقافة الإسلامية

الأدب الجزائري القديم ج1

المعارف اللسانية في التعليم