عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

طه بونيني - الجزائر

عندما ينزل القمر


طه بونينيسمع صوتا قادما من الشّمس يهمس له: "لا تفعل، أنا أمّك، أنا أكبر منك، اسمع كلامي".

أوّل مرّة يسمع فيها القمر حديثا مباشرا من الشّمس، ولقد بدت غاضبة، تصدر منها ألسنة النيران وعواصف اللهب. لم يسمع أحد صوت الشمس ولا القمر إلّا أنّه مؤخرا قد أسهب الحديث يخاطب نفسه وبصوت عالٍ.

ولقد أمهَلَت الشّمسُ القمرَ وتركته علّه يتوانى ويتراجع عن مراده، لكنّها ما فتئت تسمعه يردّد نفس الحديث. وأخيرا خرجت عن صمتها وخصّته بكلمات خالدة سيتردّد صداها في أرجاء الكون إلى الأبد.

وقد كان القمر مشغولا أثناء ذلك بنجواه وحديث نفسه. لكنّ هذه الكلمات كادت توقف دورانه من الذهول. استغرق تابع الأرض في لحظة صمت، وبَدَا مذهولا من ذلك الصوت العميق السرمدي الذي اخترق الأثير وزلزل سكون المجرات. وكمن يريد التأكّد، قال عبثا في صوت يتخلّله الخوف:

"ماذا؟ لا أفعل ماذا؟ تريدينني ألّا أخاطب سكّان الأرض؟"

وراح يكرّر السؤال دون أن يوفّق لجواب. وقد سعى صوت القمر المحموم هو كذلك بين الأكوان، فهيّج البحار والمحيطات، وكاد يخرج من مداره محاولا الحصول على إجابة، غير أنّه تعقّل مدركا عواقب أفعاله.

وبعد إصرار مستميت رضخت الشمس وبصوت عميق حكيم أجابت: "نــَـعــَــمْ".

وجم القمر وأخذ يفكّر ويحدّث نفسه من جديد بصوت خافت:

"كيف لا أخاطب أبناء الأرض صديقتي ورفيقة دربي. لطالما نظر إليّ النّاس بعين حالمة، وتمنّوا المشي على سطحي لعهود طويلة حتّى تحقّق لهم الأمر أخيرا. إنّ البشر يحبوّنني فلماذا لا أحادثهم كما يحادثونني، وهم الذين أفردوا لأجلي الأشعار والخواطر. حتّى من لا يحسن قرض الشعر أو كتابة الخواطر تراه معلّق النظرات تائه البصر مسلوب اللبّ وفي قلبه ألف عاطفة وكلام وشوق وسلام.

ومنهم من يمضي الليل يتتبّع خطواتي في السماء، وأطواري التي تختلف: تارة بدرا وتارة عرجونا قديما. كيف لا أشقُّ لهم صدري وأعطيهم سرّي وأصارحهم بشجوني وأقاسمهم ليالي وحدتي؟ كيف لا وهم يسمّون كلّ جميل بـ"القمر". لقد صنع البشر لي تماثيل وسمّوها باسمي، بَنَوا القصور والبروج لأجلي. كيف لا يستحقّ هؤلاء أن أتوجّه إليهم بالحديث؟

ثمّ خرج القمر عن هدوئه وقال ثائرا مخاطبا الشّمس من جديد: " كيف لا؟ كيف لا؟"

وكانت الأرض تردّد أنظارها بين القمر والشمس وهي تعي ما يشجن فؤاد تابعها، كما تفهم جيّدا قصد سيّدة الكواكب السيّارة. ورغم ذلك فهي آثرت الصمت، حفاظا على وشائج الصداقة مع كليهما.

وسرعان ما امتلأ القمر عزما في تحقيق مراده. استجمع رباطة جأشه، وحضّر بضع كلمات تكون جسر مودّة يستهلّ بها حديثه مع عشّاقه وأحبّائه.

في تلك اللحظات كانت آلاف العيون تهيم في قبّة السماء. في ليلة بيضاء من ليالي البدر، راح القمر يطلق أولى همساته مع خيوط النور، فيتلقّاها الشعراء والحالمون والعشّاق وهوّاة رصد الكواكب والنّجوم. بدت تلك الهمسات كأصوات خيالية مستحيلة قادمة من العدم. لكنّها تكرّرت فما إن ينظر شخص تجاه القمر معجبا إلّا وأفشى إليه القمر بعضا من أسراره.

هذه الليلة هي الثالثة عشرة، وقد مضت ساعة منذ بدأ القمر يخطب من منبره ويتحدّث من عليائه فأنصت إليه أتباعه ومعجبوه.

ومن فرط الجمال والسحر أصيبت النفوس المرهفة بنوع من الجنون والتعلّق والتأثّر بذلك الصوت الفريد الذي لا يشبه صوتا آخر، بل مزيجا من أجمل الأصوات. انساب صوته في تؤدة فنَفِذَ إلى القلب مباشرة متجاوزا الأذن. وكأنّه معزوفة تذوب وسط النّور تتردّد بين أنغامها كلمات تحكي الزمن وتختصر عصورا من الصمت.

لحظات مجد وانتصار لأفئدة تُؤثِرُ الليل عن النّهار، تهوى كواكب الليل ونجومه ولا تملّ من انتظار القمر كلّ ليلة. أمّا هذه الليلة فهي حفلة بل عيد يحتفل فيه القمر عميد الفنّانين بالإحساس وقَدْ حَشد جمهوره ليلقي أمامه عمله الفنيّ الخالد.

امتدّت الثواني الأولى خلال الزمن واضعة قوانين الفيزياء موضع الاستهزاء، لأنّه متى حضرت قوانين الجمال صارت هي الغالبة.

تلك الدقائق الأولى كانت فاتحة لعهد جديد حيث كلّ شيء ممكن. وما مرّت إلّا دقائق حتّى علم القاصي والداني بأمر وحي الإلهام الذي يتنزّل على كلّ من ينظر إلى القمر.

رأى البدر تلك الأعناق الكثيرة التي تشرئب لرؤيته، والنواصي البيضاء التي ترنو إليه، فهاله الأمر قليلا وارتبك ثمّ استدعى شجاعته وخطب بصوت ملهم عميق ودافئ:

"أنا القمر، يا سكّان الأرض. يا من يحبّون القمر ولياليه. يا من يعيشون على الكوكب الأزرق، يا بني البشر، يا مخلوقات الله الكريمة، لقد أبَيتُ إلّا أن أخاطبكم.

لقد سمعت أشعاركم، أَنْصَتُّ إلى أحلامكم ورأيتُ عيونا تدمع وهي تناجيني. كلّما استقبلني أحد من خلال نافذته، أو تطلّع إليّ وهو يمشي في الحقول والسهول المفتوحة على السماء، تمكّنتُ من رؤيته والاستماع لخواطره. فمن خلال أعينهم البارقة التي تلمع وهي تتجّه نحوي أستطيع الوصول إليهم. هل تدرون أيّها البشر بأنّي أنظر إليكم بدوري؟".

تعجّب كثيرون من هذا الحديث، لمّا علموا أنّ القمر ينظر إليهم كما ينظرون إليه.

تواصل حديث القمر نصف ساعة من الزمن. كانت أبصار النّاس شاخصة إليه وأجسادهم ثابتة لا تتحرّك. ولمّا فرغت حصّة الإلهام الأولى وانفضّت الجماهير عاد القمر لوحدته، يراقب الأرض من جديد، وقال في سرّه: "اليوم بدأ تاريخ جديد سأكون فيه قائد البشر وملهمهم".

وحقّا كانت تلك الليلة سابقةً لا قبل للنّاس بها. وراح بعض النّاس يلهجون بهذا الحدث الغريب. وأخذ آخرون يكذّبونهم منكرين. وانقضى الليل وهم يسترجعون ما قاله لهم كوكب الليل. فكتب الشعراء قصائد جديدة أبلغ وأطول. وجلس العشّاق يحتفلون بنشوة دامت نصف ساعة وسيدوم أثرها في قلوبهم للأبد.

وفي الليلة الرابعة عشرة، التفّ الكلّ حول مسرح السماء ينتظرون مُلهمهم، وكان الجمهور أكبر. توجّهت العيون في منتصف الليل نحو القمر وقد استوى على بساط الليل المرصّع بالنّجوم. ومع أمواج الضوء تسرّب الحديث، وتسلّل إلى الأفئدة العطشانة المولعة الولهانة. وقال: "يا معشر البشر حدّثوني؛ أفصحوا عن بنات صدوركم، وخلجات نفوسكم. بوحوا إليّ كسابق عهدكم ولا تضعوا حاجزا بيننا".

صُعق أحبّاء القمر وعشّاقه لأنّه طلب منهم الكلام معه، وكأنّه يحتاج إلى ذلك.

تشجّع أحدهم وقال بنبرة حالمة: "ما سرّ ضوئك هذا الذي يضيء ليالينا، وهالة الوقار والعظمة التي تحيط بك في هذه الليالي؟"

تفرّس القمر في وجه السائل ورأى في عينيه وهو شابّ يافع حالم ينظر إليه بمقلتين تتغرغران بالدّمع من الذهول والتأثّر. فأراد أن يثلج صدره وأن يمحو تلك الدهشة المستقرّة بين قسمات وجهه. وقرّر أن يميط ستار الجلال والجمال الذي يضفي عليه الهيبة والوقار، وأن يقترب أكثر لمحبّيه. وراح يشرح الظواهر الفيزيائية التي تجعل منه القمر المضيء الذي ينير ليالينا، نافيا عن نفسه صفة الإنارة، وأنّه لا يزيد عن مرآة عاكسة لضوء الشمس.

وبعد السؤال الأول الذي أسهب فيه القمر الشرح، تجرّأ الكثير، وسأله أحدهم: " ما سرّ تلك البقع السوداء التي تميّز سطحك؟"

أخذ القمر يكشف عن كلّ خصوصياته ومميّزاته ميزةً ميزة وخصاله خصلةً خصلة. فتكلّم عن البقع السوداء التي تلوّن صفحته، والتي لطالما غرقت في عمقها المُقَلْ.

وسأل آخر: "احك لنا عن سلطانك على البحار والمحيطات". فتكلّم القمر عن جاذبيته، ودورها في حركة المدّ والجزر.

واستفسرت فتاة مصابة بسحر القمر وتعاويذ جماله قائلةً: "أحبّك في كلّ أطوارك، هلالا، نصف قمر أو بدرا. أخبرني عن حالك وإحساسك في كلّ طور يا رفيق لياليَّ الخاليات".

فأجاب بنبرة الصديق، بالسرعة والعفوية المعتادة: "أحسُّ بنفس الشعور في كلّ طور لأنّي أبقى على حالي في كلّ وقت، غير أنّكم أنتم من تلحظون ذلك الاختلاف".

تعجّب الكثير للنبرة الجديدة التي يخاطب بها القمر سكّان الأرض.

استمرّت الليلة بنفس المنوال. الوالهون يسألون والقمر يجيب. ودام ذلك ساعات الليل كلّها.

في الليلة الخامسة عشرة، طلع البدر بكامل حلّته وأتمّ رونقه وجماله ونادى في النّاس: "أين أصحابي؟ أين أحبابي؟"

كانت السّماء ملبّدة بالغيوم ومع ذلك راح القمر يكابد العناء للخروج من بينها، ليلقى جمهوره.

وأطلّ كوكب الليل من بين السحب، وقد كان الكثير من النّاس يحبّون ذلك الاختراق الجميل المفاجئ والمنتظر في نفس الوقت. بل ليس أجمل لدى مراقبي السماء وأحباء القمر أكثر من رؤية ذلك المنظر السحري. وكأنّ القمر يلعب معك الغميضة.

تسلّل طيف القمر من وراء السحب وهو يحاول جاهدا إيجاد فجوة بينها ليلتقي من جديد بسكّان الأرض، وكي لا يتأخّر على جمهوره.

في تلك الليلة لم يكن الحشد كبيرا. كان البعض يستمتع بالمنظر الجميل. إلّا أنّه بعد فترة، انقشع السّحاب ليستقرّ القمر على عرشه في السماء ويستمتع بالرفقة الطيبة. ولأوّل مرّة، لاحظ بأنّ الحضور أقلّ من المعتاد، وعزا ذلك لتأخره، واكتفى بالجمهور المتواضع الذي ارتفع بهامته نحوه.

ولاحظ في هؤلاء غياب البريق المعتاد في عيونهم الساهرة، وتلك الملامح المستسلمة في وجوههم الحائرة.

افتتح البدر هذه الليلة المقمرة البيضاء بأحاديث الحسن والجمال، وقد كانت تلك الليلة آية في الكمال، ثمّ سأله بعض الوالهين وأجابهم دون تردّد.

مرّت الليلة أقصر من سابقتها وقد تداعى كثيرون للنوم ولم يكملوا السهرة حتّى الفجر. وما أن بلغ الليل أقصاه حتّى وجد القمر نفسه شبه وحيد، وقد انصرف الشعراء والعشّاق والحالمون والوالهون والفلكيون للسلطان الآخر الذي ينافسه كلّ ليلة وهو الكرى.

وبعد يوم آخر سطعت فيه الشّمس ومارست فيه سطوتها على الأرض بصمت وقوّة وحزم، غادرت تاركة السماء والأرض للقمر.

في الليلة السادسة عشرة كانت الليلة رائعة. لم تزل الهالة تلفّه بالوقار والهيبة، والسماء الصافية قد أفسحت له المجال وحده. وصال ضوء القمر في أجواء العلا وأرجاء الأرض يحيي الحياة على الخمائل والسهول. والبلابل تشدو والجنادب تغنّي، والنّاس يسْعَوْن على ضوء القمر يتسلّلون تحت أطياف الشجر يلتمسون مكانا ساحرا في الطبيعة. غير أنّ هؤلاء على غير العادة، لم يكونوا ينظرون نحو القمر وكأنّه لا يزيد عن مصباح كهربائي. هذا القنديل الذي يضيء لهم حياتهم ويكفل لهم التحرّك بين الأحراش دون خوف.

خَلَت النوافذ من الساهرين وأقفرت ساحات الوله بسيّد الليل والإلهام. لقد صار الرفيق الذي لم يضنَّ يوما بمصاحبة الوحيدين والمشجونين ومواساة المكلومين ومؤانسة المجروحين، صار اليوم بلا رفيق.

نزل القمر من كبريائه ومن عليائه في رابع ليلة. كشف عن غموضه وسحره وجماله. لكن صار تجلّيه أمام الأشهاد روتينا ولم يعد ظاهرة خارقة.

حزن القمر وبكى. وفي ثنايا الكون دوّت صرخة سمعتها الشموس والأقمار في المجرّات البعيدة. وأَنَّ البدر وأحسّ بالوحشة وبينما هو كذلك إذ سمع صوت الشمس تقول له:

"هل تظنّ أنّي سأظلّ الشمس لو أنّي فعلت فِعلتك؟ يا ليتك ما نزلت يا قمر!"

D 25 تموز (يوليو) 2015     A طه بونيني     C 4 تعليقات

2 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 110: توظيف الواقع في الروايات

بائع العرقسوس: مهنة شعبية من الزمن العضوي

موسم الحوريات ...

اللغة العربية في الثقافة الإسلامية

الأدب الجزائري القديم ج1