عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إيناس يونس ثابت - اليمن

من أجلكِ قبّلتُ الحجر


هدية كذبته الأخيرة غلَّفها بمكرٍ ساذج وقدمها إليَّ مجتراً كذبة تلو أخرى، لم يبكِ قلبي ولم تنتحب عواطفي ولم ترمش عيناي موارية أدمعي ولم تنشغل أناملي بأطراف فستاني هاربة من ملاقاة عينيه. كنتُ شاردة الذهن أفكر فيها وأتذكر تفاصيل وجهها البريء، أسمع صوتها وهي تلوح بعلبة منديل فلم تتلوث أذناي بقبح حديثه.

كانت تجلس بجانبي أمام دكان صغير مستغلةً زبائنه والمارين لعرض علب مناديلها للبيع. تلوح بعلبة منها بعينين تجهلان الكون وتستغل القليل من الوقت لتبتكر لعبة ما بعلبة منديل أو قشة ملقاة على الأرض أو تدلل الحجر في كفها كدمية. تلهو في الخيال، وفي الخيال ربما رأتْ نفسها سندريلا في عربة تجرها خيول بيضاء مجنحة، تزورها الساحرة فتحول دنياها جنة.

رأيتها كثيرا هنا كلما زرتُ هذا المكان، صغيرة فاتنة شقراء، وجدتُ نفسي أمرر يدي على شعرها فالتفتت نحوي ووجدتْ في ذلك مدخلاً لعرض علبة منديل عليّ.

اشتريتُ منها ثلاث علب بلا حاجة مني بها إلا رغبة في إرضائها وإدخال بعض البهجة لقلبها، ابتسمتْ مسرورة فانساب من فمي سؤال يخلفه سؤال حتى كونتُ نبذة عنها.

علمتُ أن والدتها تبيع أيضا في بقعة مجاورة من هنا والطفلة المسكينة عُرضة لقلب يرحم أو لا يرحم، لإنسان سوي أو ذئب مفترس، تبيع نهاراً ومساءً بدلا من مرافقة قلم وطبشور وكتاب مدرسي.

ضممتُها إلى صدري فتدفقت الرحمة في قلبي وشعاع لأمل الحياة من جسدها الصغير نفذ إلى جسدي وتساءلتُ: كيف السبيل إلى رحمتها؟ فحملتُ قلماً ودفتراً في حقيبتي، وكلما زرتُ المكان والتقيتها خططت لها وعلمتها متعة القلم والأبجدية.

تقاربنا بمرور الأيام، وكلما زاد اقترابي منها زاد انشراح صدري واتسع شِق في الأفق ينساب منه نورٌ وطِيب هواء يُنعش روحي فَلان قلبي وازددتُ إنسانيةً. إنسانيةً تملأنا حباً وعظمةً وشعوراً بالعزة، تكسونا بثوب الربيع وتُقرضنا الأمل، تهبنا نور الملائكة وتعلو بنفخة الروح الإلهية الساكنة في أعماق طيننا. إنسانيةً تواقةً لريِّها بتبسم الثغر للكهل العليل وإماطة الزجاجة عن الطريق أو فتح باب قفص عصفور أسير وكتابة كلمة تقيم أعيادا في قلب يحبك.

ونسيتُ بذلك خيبتي، فالحياة أخذتْ منها أكثر مما أخذت مني، كان نصيبي من لحظات الفرح في العمر السابق أكثر، نلتُ ما كنتُ أراه حقاً لا نزاع أو مزاح فيه كالمأكل والهواء، وفي حضرتها رأيته حلماً وكمالاً كما حكى الحجر في كفها.

تهجئة الحرف لديها بعض من دلال وعلبة المنديل محور دوران أرضها. كان على الحروف أن تثقب جدران كل البيوت وتقتحم العقول البريئة شاء كبارهم أم أبوا، وكان على إنسانية العالم أن تقف إجلالاً وإكباراً لغرس الحروف وترويها من عرقها لتجني حلو الثمر وتقف كالطود العظيم في وجه مجتثيها. ومن أجلها قبَّلتُ الحجر وخبأته في جيبي ليثقب جدراني فيتسلل النور فيني كلما زارني الألم.

لا زالت هديته ملقاة على الكرسي بجانبي، فتحتُ شريطها الأحمر والغطاء، كانت ساعة ثمينة جدا، لم ألقِ بها كسابقاتها في سلة مهملات هداياه ووعوده وكذبه.

نهضتُ ببرود شديد أنفض فستاناً وهواءً لم يتسخ إلا بأنفاسه، قبضتُ على الساعة فثمنها سيفيدني هذه المرة بلا شك في شراء الكثير من الدفاتر وأقلام الرصاص. دنوتُ من وجهه البغيض ألوح بالساعة، حدقتُ في عينيه كأميرة قوية أحدثه: سأصنع من كذبك فِكراً وإنساناً، وأنتَ أيضا كن إنسانا واعطني حريتي.

D 25 تموز (يوليو) 2015     A إيناس ثابت     C 6 تعليقات

3 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 110: توظيف الواقع في الروايات

بائع العرقسوس: مهنة شعبية من الزمن العضوي

موسم الحوريات ...

اللغة العربية في الثقافة الإسلامية

الأدب الجزائري القديم ج1