عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

الصقر


فنار عبد الغنيفي الأعالي تمتد مملكته التي لا حدود لها سوى الأفق والسماء، تشتهي الغيوم والرياح المكوث فيها، وحين تعبرها تتمهل في مرورها لتطيل البقاء كما تشتهي، تظل تدور وتدور في ذات المساحة السماوية حتى تتساقط مطرا وقمحا وزيتونا ووردا.

هناك موطنه الأبدي، منذ وجد حرا ووحيدا وشامخا. لا حدود لحريته كما لا حدود لشموخه من أقاصي السماء إلى منحدرات الجبال. يبسط ريشه فيسد وجه الشمس، يحط متعاليا فوق قمم الجليل: هو الصقر الكنعاني العظيم، هبة الخالق لسماء كنعان منذ بدء التكوين. هو متفردٌ في مجده، ممتنعٌ في حزنه.

لا يزال رغم إحساسه بالمرارة والحيرة التي تعتصر فؤاده منذ شتات 1948 وهو يجول الأعالي وحيدا. يحط الرحال في النقب طويلا ثم يعود لمرتفعات الجليل حائرا، منصتا بقوة لصدى أغنية فرحة أو حزينة لعلها ترشده لعشيرته التي اختفت عن وجه البسيطة، لكن بلا جدوى.

يتساءل مستغربا ماذا حدث لهم؟ ولماذا اختفت أغاني الحب والحصاد والحياة؟ أين ذهبت ضحكات الأطفال الذين لا يكلون من اللعب ؟ أين الفلاحون الذين لا تنضب ألسنتهم عن الحكايا؟ ولماذا لم يعد العشاق ينتظرون القمر؟ وهل اختفى الحب؟

كان لايزال يتفكر وهو متربع فوق القمم عن سر اختفاء اللغة العربية عن أرض كنعان، ويحاول فهم اللغات الغريبة التي لا تشبه أرض كنعان بشيء، أرضه التي غدت فريسة للغزاة، تمزقها جرافاتهم وتغير جغرافيتها وتشتت شعبها كل يوم .

في الأسفل قبع فدائي خلف شق منحدر صخري، يراقب الحدود وينتظر، يختلس فرصة ليعود إلى السميرية، يتخيل طريق العودة إليها، يحتسب المسافة بينها وبين الجنوب اللبناني حيث يرابط.

إنه ينتظر وينتظر ويمتد انتظاره ويصوب نظره إلى الصقر المتربع فوق القمم الشمّاء، يتمنى أن يتحول صقرا ليجتاز الحدود ويلامس تراب فلسطين، يمسكه ويحني جسده به، يشتمه، يأكله، يعده زادا، يحمله ليتدثر به.

ليته يستطيع النفاذ إلى داخل وطنه فلسطين، فتعبق رئتاه بهوائها وأريج زهورها فيهدأ أنين صدره وتشفى جراح نفسه.

ليت الدروب تحمله إلى قريته حيث جنات البرتقال والرّمان والعنب ونبع العشاق الهدّار بالمياه الباردة الشهية. يرجو ألا يدركه الموت قبل أن يتذوق ماء نبع العشاق.

أخذ يحلم بأنه هناك يحمل بيده اليمنى سلة من البرتقال ويضع على راسه تاجا من عناقيد العنب الأحمر، والعصافير المشاكسة تلاعبه محاولة التقاط الحبات المتوهجة من أشعة الشمس، وأمام ناظريه يحط سرب من النوارس يلهو فوق رمال السميرية.

يسمع صوت طلق ناري، يجرح الصقر، ويسقط متهاويا في الوادي، يراه يرتجف وهو يحاول النهوض جاهدا، يتحرك بعناء، يرتفع قليلا ثم ينخفض، ثم يعاود الارتفاع فيرتمي مجددا ويجذبه الأرض المخضوضرة، ويستبسل الفدائي للوصول إليه، يحمله ويمضي.

في المخيم كانت شمس المغيب ساعة وصوله قد عكست ظلالها على أكوام البيوت الصغيرة والضيقة والمكتظة وصبغتها بلون ناري باهت حتى بدت كقطع كبيرة من الفخار المهترئ. توجه مسرعا إلى أحد الأكوام حيث يعيش شيخ حكيم يقصده قاطنو المخيم ليداويهم ويعطيهم النصح والمشورة.

رأى الشيخ الحكيم أن الصقر الجريح قوين وحالته ليست بالخطيرة، وطمأنه بأنه سيتعافى قريبا.

توجه الفدائي مرة ثانية إلى أحد البيوت المظلمة والرطبة حيث تحلقت عائلته حول الصقر، هتف إخوته الصغار الجائعون من فرحتهم برؤية الصقر:

= يا له من طائر كبير ولذيذ!

= هذا الطائر ليس للأكل، إنه جريح. وعندما سيتعافى سأعيده إلى الوطن، وأعتقد أنه جائع.

ذهل الصغار الضعفاء شاحبو الوجوه، والذين ازداد شحوبهم، وبدت تطل من أعينهم دموعا كسيرة بعد أن عرفوا بقصة الصقر، قالت الأم:

= ماذا سنطعمه؟ بالكاد لدينا ما يكفينا من الطعام.

= الصقور لا تأكل إلا اللحوم الطازجة.

شهق الجميع بصوت مرتفع:

= من أين لنا اللحوم الطازجة؟

لم يكن لدى العائلة سوى علبة لحم معلّب واحدة، وقد فضلوا التخلي عنها وإطعامها للصقر الذي ازداد وجوما. تعاونوا على صنع قفص من أغصان أشجار الزنزلخت المنتشرة قرب المخيم بكثرة، وقدموا للصقر الماء وأيضا اللحم المعلّب لكن الصقر لم يمس شيئا منها.

استمر الصقر على حاله خمسة أيام غيرت من لون الماء واللحم المعلّب والصغار الجياع حوله يراقبونه بأعين حزينة ويراقبون اللحم المعلب المتعفن بأعين أكثر حزنا.

في اليوم السادس اختلت وقفة الصقر.

في اليوم السابع كان الصقر متضخم الجسم نائما وسط القفص بعينين مفتوحتين على آخرهما وغاضبتين بشدة لكنهما مفزعتين أيضا. ولولا تينك العينين الصامتتين والقلب المعطل عن الحركة لأعتقد الجميع أنه لا زال ممتنعا عن الحياة.

D 27 حزيران (يونيو) 2015     A فنار عبد الغني     C 19 تعليقات

10 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 109: التحريض في برامج الدردشة

اللغة الأمّ في الجزائر

العود وحضوره في القوالب الموسيقيّة

الموسيقى في أسلوب طه حسين

دوستويفسكي: رائد الرواية النفسية