فنار عبد الغني - لبنان
الصقر
في الأعالي تمتد مملكته التي لا حدود لها سوى الأفق والسماء، تشتهي الغيوم والرياح المكوث فيها، وحين تعبرها تتمهل في مرورها لتطيل البقاء كما تشتهي، تظل تدور وتدور في ذات المساحة السماوية حتى تتساقط مطرا وقمحا وزيتونا ووردا.
هناك موطنه الأبدي، منذ وجد حرا ووحيدا وشامخا. لا حدود لحريته كما لا حدود لشموخه من أقاصي السماء إلى منحدرات الجبال. يبسط ريشه فيسد وجه الشمس، يحط متعاليا فوق قمم الجليل: هو الصقر الكنعاني العظيم، هبة الخالق لسماء كنعان منذ بدء التكوين. هو متفردٌ في مجده، ممتنعٌ في حزنه.
لا يزال رغم إحساسه بالمرارة والحيرة التي تعتصر فؤاده منذ شتات 1948 وهو يجول الأعالي وحيدا. يحط الرحال في النقب طويلا ثم يعود لمرتفعات الجليل حائرا، منصتا بقوة لصدى أغنية فرحة أو حزينة لعلها ترشده لعشيرته التي اختفت عن وجه البسيطة، لكن بلا جدوى.
يتساءل مستغربا ماذا حدث لهم؟ ولماذا اختفت أغاني الحب والحصاد والحياة؟ أين ذهبت ضحكات الأطفال الذين لا يكلون من اللعب ؟ أين الفلاحون الذين لا تنضب ألسنتهم عن الحكايا؟ ولماذا لم يعد العشاق ينتظرون القمر؟ وهل اختفى الحب؟
كان لايزال يتفكر وهو متربع فوق القمم عن سر اختفاء اللغة العربية عن أرض كنعان، ويحاول فهم اللغات الغريبة التي لا تشبه أرض كنعان بشيء، أرضه التي غدت فريسة للغزاة، تمزقها جرافاتهم وتغير جغرافيتها وتشتت شعبها كل يوم .
في الأسفل قبع فدائي خلف شق منحدر صخري، يراقب الحدود وينتظر، يختلس فرصة ليعود إلى السميرية، يتخيل طريق العودة إليها، يحتسب المسافة بينها وبين الجنوب اللبناني حيث يرابط.
إنه ينتظر وينتظر ويمتد انتظاره ويصوب نظره إلى الصقر المتربع فوق القمم الشمّاء، يتمنى أن يتحول صقرا ليجتاز الحدود ويلامس تراب فلسطين، يمسكه ويحني جسده به، يشتمه، يأكله، يعده زادا، يحمله ليتدثر به.
ليته يستطيع النفاذ إلى داخل وطنه فلسطين، فتعبق رئتاه بهوائها وأريج زهورها فيهدأ أنين صدره وتشفى جراح نفسه.
ليت الدروب تحمله إلى قريته حيث جنات البرتقال والرّمان والعنب ونبع العشاق الهدّار بالمياه الباردة الشهية. يرجو ألا يدركه الموت قبل أن يتذوق ماء نبع العشاق.
أخذ يحلم بأنه هناك يحمل بيده اليمنى سلة من البرتقال ويضع على راسه تاجا من عناقيد العنب الأحمر، والعصافير المشاكسة تلاعبه محاولة التقاط الحبات المتوهجة من أشعة الشمس، وأمام ناظريه يحط سرب من النوارس يلهو فوق رمال السميرية.
يسمع صوت طلق ناري، يجرح الصقر، ويسقط متهاويا في الوادي، يراه يرتجف وهو يحاول النهوض جاهدا، يتحرك بعناء، يرتفع قليلا ثم ينخفض، ثم يعاود الارتفاع فيرتمي مجددا ويجذبه الأرض المخضوضرة، ويستبسل الفدائي للوصول إليه، يحمله ويمضي.
في المخيم كانت شمس المغيب ساعة وصوله قد عكست ظلالها على أكوام البيوت الصغيرة والضيقة والمكتظة وصبغتها بلون ناري باهت حتى بدت كقطع كبيرة من الفخار المهترئ. توجه مسرعا إلى أحد الأكوام حيث يعيش شيخ حكيم يقصده قاطنو المخيم ليداويهم ويعطيهم النصح والمشورة.
رأى الشيخ الحكيم أن الصقر الجريح قوين وحالته ليست بالخطيرة، وطمأنه بأنه سيتعافى قريبا.
توجه الفدائي مرة ثانية إلى أحد البيوت المظلمة والرطبة حيث تحلقت عائلته حول الصقر، هتف إخوته الصغار الجائعون من فرحتهم برؤية الصقر:
= يا له من طائر كبير ولذيذ!
= هذا الطائر ليس للأكل، إنه جريح. وعندما سيتعافى سأعيده إلى الوطن، وأعتقد أنه جائع.
ذهل الصغار الضعفاء شاحبو الوجوه، والذين ازداد شحوبهم، وبدت تطل من أعينهم دموعا كسيرة بعد أن عرفوا بقصة الصقر، قالت الأم:
= ماذا سنطعمه؟ بالكاد لدينا ما يكفينا من الطعام.
= الصقور لا تأكل إلا اللحوم الطازجة.
شهق الجميع بصوت مرتفع:
= من أين لنا اللحوم الطازجة؟
لم يكن لدى العائلة سوى علبة لحم معلّب واحدة، وقد فضلوا التخلي عنها وإطعامها للصقر الذي ازداد وجوما. تعاونوا على صنع قفص من أغصان أشجار الزنزلخت المنتشرة قرب المخيم بكثرة، وقدموا للصقر الماء وأيضا اللحم المعلّب لكن الصقر لم يمس شيئا منها.
استمر الصقر على حاله خمسة أيام غيرت من لون الماء واللحم المعلّب والصغار الجياع حوله يراقبونه بأعين حزينة ويراقبون اللحم المعلب المتعفن بأعين أكثر حزنا.
في اليوم السادس اختلت وقفة الصقر.
في اليوم السابع كان الصقر متضخم الجسم نائما وسط القفص بعينين مفتوحتين على آخرهما وغاضبتين بشدة لكنهما مفزعتين أيضا. ولولا تينك العينين الصامتتين والقلب المعطل عن الحركة لأعتقد الجميع أنه لا زال ممتنعا عن الحياة.
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
10 مشاركة منتدى
الصقر, أسماء حنفي | 4 تموز (يوليو) 2015 - 11:26 1
القصة جميلة جدا ومليئة بصور ومشاعر الشوق والحنين إلى وطننا الحبيب فلسطين.
بارك الله تعالى بك وزادك معرفة وبراعة في الكتابة والتأليف لتحلقي دائما في أجواء وربوع وطننا الغالي كما كان هذا الصقر.
1. الصقر, 7 تموز (يوليو) 2015, 13:31, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
أشكرك على ذوقك وصدق مشاعرك وأرجو من الله التوفيق لأكون عند حسن ظنكم بي.أعزك الله.
الصقر, salam ismail | 4 تموز (يوليو) 2015 - 18:59 2
قصة تأخذنا الى تخيل أحداث مرت مع اجدادنا ،فيها أسمى المعاني من تضحية وكرامة
1. الصقر, 7 تموز (يوليو) 2015, 13:22, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
أشكرك ياعزيزتي.أعزك الله وأدام عليك نعمة الشعور بالكرامة.ودمتم لي بخير.
الصقر, ملاك الأموي من لبنان | 4 تموز (يوليو) 2015 - 20:53 3
قصة رائعة ومأثرة جدا بالتوفيق ان شاءالله ومزيد من التألق والنجاح
1. الصقر, 7 تموز (يوليو) 2015, 13:20, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
أشكرك وأتمنى أن أكون عند حسن ظنك.دمتم لي بخير
الصقر, براء - لبنان | 5 تموز (يوليو) 2015 - 22:43 4
يعجز لساني عن الكلام بعد قراءة هذه الموضوعات الرائعة. لقد ساهمت في تعزيز الثقة والصمود وروح المواجهة في أنفسنا. نشكرك على هذا المجهود الكبير. أنت معلمة فاضلة وكاتبة بارعة تعلمنا منك الكثير ولا زلنا نتعلم منك . أتمنى لك التوفيق و التقدم يا جوهرة فلسطين. تلميذتك الفخورة بك براء.
1. الصقر, 7 تموز (يوليو) 2015, 13:17, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
أشكرك على مشاعرك الصادقة،أسعدتني جداً،وأناأيضاً أفخر بك ياعزيزتي.نحن جميعاً أخوةفي الاغتراب الموحش والممتد.
الصقر, ولاء - لبنان | 6 تموز (يوليو) 2015 - 08:50 5
القصة رائعة حقا؛ تعبيرك سلس و جميل .. اول قصة اقرأها لکِ. لقد اعجبني جدا طريقة سردك، تعلمت القليل من المعاني، نشكرك على مجهودك الرائع. قصة جميلة تأثرت بها .. تعلمنا منك الكثير وما زلنا نتعلم، اتمنى لكِ المزيد من التقدم أنتِ مبدعه بحق. دام قلمك نبعا لا ينضب ♡
1. الصقر, 7 تموز (يوليو) 2015, 13:11, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
أشكرك لقد أسعدتني كلماتك الرقيقةوأتمنى أن أواصل عمليةالكتابة كما التعلم لتقرئي لي المزيد.ودمتم لي بخير.
الصقر, منى عبدالغني | 6 تموز (يوليو) 2015 - 14:17 6
الوصف رائع وتخيلك لما مر به أجدادنا بالتغريبة القصرية حقيقي وكأنك كنت معهم في رحلة الشقاء.استمري غاليتي واكتبي سيكون ما نكتبه الآن في مكتبة الأدب الفلسطيني
1. الصقر, 7 تموز (يوليو) 2015, 13:06, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
أشكرك يا عزيزتي ,هذا واجبنا تجاه أمنا الغالية وأجدادنا.أتمنى أن أكون عندحسن ظنكم بي.ودمتم لي بخير
الصقر, هبة العيسى_لبنان | 7 تموز (يوليو) 2015 - 09:50 7
قصة جميلة و مؤثرة جدا..
انت كاتبة مبدعة ذات اسلوب ساحر و سلس..تعلمنا منك الكثير و ما زلنا نتعلم..
أتمنى لك دوام النجاح و الابداع و االتألق..♡
1. الصقر, 7 تموز (يوليو) 2015, 13:00, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
أشكر لك حسن تقديرك وأتمنى أن أكون قدوفقت في تقديم ماهدفت إليه في قصتي.أسعدتني كلماتك.
الصقر, علاء من فلسطين | 7 تموز (يوليو) 2015 - 15:34 8
قصة رائعة جدا أخت فنار
أتمنی أن أقرأ المزيد لك
دمت ودام نبض قلمك
1. الصقر, 11 تموز (يوليو) 2015, 07:37, ::::: فنار عبدالغني
شكراً لك يا أخي ، أسعدتني كلماتك.
الصقر, هدى أبوغنيمة عمان الأردن | 7 تموز (يوليو) 2015 - 16:20 9
أ/فتار تحية طيبة وكل التقدير لهذا النص الرمزي الجميل أرجو لك التوفيق .
1. الصقر, 11 تموز (يوليو) 2015, 07:34, ::::: فنار عبدالغني
عزيزتي واختي ،شكرا على التقدير والامنية الغالية،أرجو أن أكون عند حسن ظنكم بي ، ودمتم بخير.
الصقر, محمد أبو عرقوب فلسطيني من لبنان | 21 تموز (يوليو) 2015 - 04:15 10
يا الله ما أروع هذا المقال
لقد خطف قلبي و عيوني و وجههم الى ارض المحشر" فلسطين"
و في نفس الوقت اعاد تنشيط ذاكرتي حول قضية العودة،فنحن عائدون ما زال يوجد عقول مثل هذة.
فحبذا عقلا لا ينسى قضيته و يسهر على حلها.