عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

حاجة


زكي شيرخانفي هذا المكان الذي لم يحبه، ولم يحب أهله، ولكنه مجبر، ومنذ فترة على ارتياده، كل يوم تقريبا.

صغيران، أمامه، يغطان في نوم، لا يحس تجاههما بمودة بالرغم من رابطة دم تربطه بهما. ثالثهما يجلس مستيقظا بقربه والابتسامة على شفتيه ترتسم ببلاهة لا يعرف لها معنى.

الأغنية التي يلفظها جهاز التلفزيون على يمينه، وعفونة السجادة المفروشة على أرض هذا المكان التي تخترق أنفه، تزيدان من توتره.

المكان أقرب ما يكون إلى غرفة في دار من دور الأحياء الشعبية في هذه المدينة المترامية الأطراف. لا ينم المكان، بأي شكل من الأشكال، عن أحوال أصحابه. عندما يكون هنا يفقد إحساسه بالزمن، تتداخل الأزمنة عنده بشكل يتعبه.

كم من السنوات مضت؟ إنه بالتأكيد لو فكر قليلا لعرف، ولكن أي في مرحلة من مراحل حياته هو؟ مرحلة أفوله المالي؟ لا يشك في ذلك بالمرة، وإلاّ لما كان هنا.

ود لو أتيحت له الفرصة الآن ليسجل ما يعتمل في داخله، وما يفكر به، في هذه اللحظة. بماذا سيبتدأ؟ فهو يفكر بعشرات مما يشغل ذهنه. يتنقل عقله بين عشرات الأفكار بسرعة، كأن شريطا سينمائيا يعرض أمامه.

دخلت المرأة ذات الأربعين عاما، التي جاءها زائرا، من باب على يمين مقعده. وضعت أمامه قدح شاي بضجر باد عليها بوضوح استفز كل مشاعره. سألها: "ماذا فعلت؟"

"لم يتسن لي الكلام مع زوجي إلاّ مساء أمس. لم يجبْ بشيء، وهذا يعني إنه يفكر. أظنك تعرف عنه ذلك".

لم يعلق. خيبة الأمل ملأته بالرغم من أنه لم يكن يتوقع منها بالذات قبل زوجها، ما يعينه. استأذن محتجا بانشغاله في بعض الأمور، وخرج دون أن يلتفت كي لا يفاجأ بإيماءة يد أو رأس تزيد من نزف جرح غائر في النفس.

استقبله الشارع الخالي إلاّ من صبية يلعبون الكرة. مشى محاذيا أسيجة الدور المتراصة. تذكر يوم كان يغدق عليها وعلى زوجها وعلى أولادها الهدايا العينية والنقدية مستغلا مختلف المناسبات.

كان يقدم هباته لهما على شكل هدايا حتى لا يحرج أحدهما. كان ذلك في مرحلة عزه المالي. مرحلة كان يغدق على الآخرين ما يحتاجونه من مساعدات يقدمها عن طيب خاطر. لم يكن يتردد. لم يكن يتوانى. لم يكن يبخل.

في مرحلة تالية، وبدورة من دورات الزمن المتعاقبة، فقد الكثير مما كسبه. أخلاقيات عمل جديدة نبعت من وسط ركام أحداث عاصفة. أينعت هذه الأخلاقيات قيما لم يستسغ طعمها، ولم يستطع أن يقبل وجودها حتى.

بالرغم مما عرف عنه من ذكاء ميداني في مجال عمله، وحيوية لم يدانه إلاّ القلة من أقرانه، ومقدرة على معرفة احتياجات العمل للمتجدد من الفرص، لكنه هذه المرة لم يستطع أن يتفاعل، ليس عجزا، وإنما موقفا أتخذه ضد القيم الجديدة التي سادت. هذه القيم التي ظل يصر على إنها زبد سيذهب جفاء.

آوى إلى ركن يحميه من الهوج، في انتظار مرور العاصفة. لم يخطر بباله إن الموجة التترية دفنت أخلاقيات وقيم وسلوك ظل يعتقد للساعة أنها وحدها الصحيحة. ولم يفق إلاّ والتترية سحقته أو كادت. امتصته إلى حد الجفاف. إلى حد أحتاج إلى ما يسد به جزء من التزاماته من هذه ومن زوجها. كانا الأقرب من بين كل من يعرفهم، والالتجاء إليهما سيكون الأقل ضررا على كرامته وإنسانيته كما ظن.

D 25 أيار (مايو) 2015     A زكي شيرخان     C 4 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • لولا انه
    كلما اردت امتداح النص تقفز هذه العبارة الىذهني فتمنعني .سلسة سرد رائع ثم اغلق الباب فجأة بوجه القاريء الضيف .
    جاء طالباً ماذا ؟مساعدة ؟مال؟ تعويض عاطفي ؟ ومنتظرا لاي جواب ؟ هل طرح طلبه من قبل في زيارة سابقة ؟ ماذا كان ردهم ؟هل ينوي العودة مرة اخرى؟خسارة رجل الاعمال المادية هل تعوضها رد دين من عائلة كان يتصدق عليها ؟ قصتك تشبه قميص مفكوك الغزل غير محبوك ولكن خيوطه من نوعية راقية جدا.


    • العزيزة هدى الدهان
      تحية
      "مرحلة أفوله المالي؟ لا يشك في ذلك بالمرة، وإلاّ لما كان هنا"، و"أحتاج إلى ما يسد به جزء من التزاماته من هذه ومن زوجها"، جملتان- أعتقد- أنهما توضحان حاجته للمال.
      "ماذا فعلت؟" توضح أنه سبق وأن طلب منها.
      هو لا يبحث عن تعويض عن خسارته، هو فقط يريد "ما يسد به جزء من التزاماته". هذه هي المأساة الأنسانية الدائمة... تغير حال الناس.
      في كل الأحوال، شكراً لاهتمامك بالنص وتعليقك عليه.

    • عزيزي استاذ زكي فهمت الحاجة للمال ولكن شيء ما ناقص .وعادة من يعطي مالا لاناس بائن منزلهم الرث انه مااعطاهم اياه سدوا به التزاماتهم هم لا مايفيض.هؤلاء نادرا مايعودون الى اشخاص مثل هؤلاء ليسدوا جزء من التزاماتهم المالية.لو كتبت انه عاد اليهم ليسترد جزء من الامان العاطفي الذي فقده بعد انصراف الجميع عنه اسوء حالته المالية ربما كان ممكن. عزيزي غيرتي على النص وحبكته هي مااستوقفتي ووجدت انه تنقصه نهاية مقنعه.تحياتي

    • العزيزة هدى الدهان
      لم أشك أبداً بغيرتك على النص، ولا يخفى اهتمامك به. ملاحظاتك الجديرة بالاهتمام متأتية من قارئة تقرأ النص بوعي. شكراً.

في العدد نفسه

كلمة العدد 108: دور النشر والجوائز

عن الهويّة العربيّة: طرح يستدعي الحلول

قراءة موجزة في رحلة الغفران

المقاومة في الأدب الجزائري أثناء الاستعمار الفرنسي/ج2

الإرهاب في الرواية الجزائرية