عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أدب عالمي

الأرانب البرية


أدب عالمي - جراتسيا ديليدا

الأرانب البرية

ومرت الشهور وصمتت البلابل، وبدأت أشجار الحور تسقط أوراقها، وشعرت الأرنب العجوز أنها لم تعهد مثل هذا الهدوء وهذا الأمن من قبل في حياتها، وها هو ذا الشبح المجهول الفتاك يعود فجأة إليها. ترى لماذا عاد؟

وقبعت في مكمنها تحت الشجيرات، وقد ثبتت حركة عينيها الكبيرتين تحت جفنيهما الحمراوين، وتطلعت فرات على البعد منطقة رملية يسطع عليها ضوء القمر، يحدها دغل كثيف، ومساحة من الخلاء الذي تمتعت فيه هي أيضاً، في أيام صباها الهانئة، بالتواثب وتعقب ظلها على الأرض أو انتظار حبيبها في الليالي التي يسطع فيها ضوء القمر.

شاهدت ظلاً يتحرك على الرمال، يعقبه ظل آخر، وظنت الأرنب العجوز أنها تحلم، ولكن الظلّين عادا فتوقفا ثم استأنفا لعبتهما العجيبة. لم يعد لديها أي شك: كانا أرنبين بريين. وهنا فهمت العجوز سبب عودة عدوها المجهول، ذلك الصياد في تلك الليلة إلى الجزيرة.

وهنا فار غضب عارم، بقدر ما يمكن لغضب الأرنب أن يكون عارماً، في قلبها من جديد، ولكنها لم تقنع نفسها أنها أخطأت بالبقاء وحيدة في الجزيرة، بل تصورت أن الأرنبين قد وضعا أيديهما دون وجه حق على جزيرتها.

كان الهرم والعزلة قد جعلاها شرسة وأنانية، حتى أن غضبها من ظهور الأرانب كان اكبر من رؤية عدوها المجهول، وعندما أقدمت على الخروج من مخبئها وخطت نحو الساحة الرملية، وأدركت أن الأرنبين كانا عاشقين، ازداد عنف غضبها ونقمه.

ولكن ذلك لم يمنع الأرنبين من مواصلة اللعب والتواثب والعدو معاً، وكانت الأنثى سمينة، وتكاد أن تكون شفافة الأذنين، فلونها وردي من الداخل وداكن من الخارج، وكانت تهوى اللهو واللعب، إذ جعلت تجري حول الذكر وتتظاهر بأنها لا تراه، ثم ترقد على الرمال، فإذا اقترب حبيبها منها هبت وجرت مبتعدة عنه. أما الذكر فكان نحيلاً أضناه العشق والسرور، فلم يكن ينظر إلا إليها، ويتعقبها ويلقى بنفسه عليها دون هوادة. كانا سعيدين، مرحين، لا يحملان همّاً من هموم الدنيا، مثل العشاق السعداء.

ولم تكلّ عين الأرنب العجوز من النظر إليهما، وحتى حين كان الزوجان الجميلان يختفيان من الساحة بسبب الإرهاق من فرط التواثب والملاعبة، كانت العجوز لا تبرح مكمنها، وتظل عينها على الساحة، وأذناها منتصبتان ترتعشان مثل ورقتين من أوراق الشجر الجافة في مهب الريح.
ومرت الليالي والأيام، وصار القمر في المحاق، وعاد الظلام الدامس في كل مساء، ولكن الأرنب العجوز لم تعد إلى ضفاف البركة خوفاً من الصياد، بل ظلّت مختبئة في أحلك أعماق الغابة، ولم تكن تخرج من مكمنها إلا لماماً، فتقترب من الساحة أثناء الليل لمشاهدة العاشقين في لهوهما ومرحهما.

وذات يوم سمعت طلقة نارية، ثم طلقة أخرى، وبعدها طلقات، بعيدة وغامضة، كأنها الأصداء تتنادى من بعيد.

كانت الليلة دافئة، بليلة النسيم، والهلال قد مال للغروب خلف أشجار الحور العارية من أوراقها، كأنما جعلها الله ليلة للعشاق المخلصين، ولكن العاشقين لم يعودا للظهور.

لا بد أن العدو المجهول قد ظفر بهما، واستبدت فرحة النصر العارمة الطاغية بالأرنب العجوز حتى بدأت تتواثب على الرمال، حيث كانت آثار أقدام العاشقين المسكينين ما تزال بادية.

ولكنها سمعت وقع أقدام بشرية فلاذت بالفرار ، كانت تلهث ولا تستطيع رؤية شيء وهي تنطلق سارية خلال الغابة حتى كادت أن تصل إلى الضفة الأخرى للنهر، وهناك قبعت في مخبئها حتى انبلج الفجر في تلك البقعة التي لم ترتدها من قبل.

وأفاقت عندما بزغ الفجر على الغابة التي كانت غلالات الضباب ما تزال تلفها، وتتساقط من الشجيرات قطرات ضخمة من ندى الصبح البارد، فخرجت الأرنب تستطلع الأحوال وهبطت إلى حفرة صغيرة حيث وقعت عيناها على مشهد أثار مشاعرها ومس أوتار قلبها، على الرغم من قسوة طبعها، إذ وجدت جُحراً فيه أرنبان صغيران لم يتجاوزا العام الأول من العمر، صغيران مكتنزان، آذانهما شفافة، وأعينهما كبيرة ثابتة براقة، وحدست انهما من أطفال الأرنبين اللذين قتلهما الصياد. كان احدهما يلعق رأس أخيه وإذنيه، وعندما لمح الأرنب العجوز بدا يتطلع إليها، ومد انفه يتشمم الهواء ثم عاد أدراجه، خائفا مما تجاسر على فعله. ومضت الأرنب العجوز إلى حال سبيلها، ولكنها عادت فيما بعد وجعلت تشاهد الصغيرين اليتيمين وهما يلعبان ويلعقان بعضهما البعض.

كان النهار بارداً حزيناً، وبدأت الأمطار تهطل في المساء، فعادت الأرنب العجوز إلى مكمنها القديم فوق جذوع الأشجار، على الضفة المرتفعة للبركة. واستمر هطول الأمطار ولكن ذلك لم يزد من حزن الأرنب العجوز، إذ أن الأمطار تعني في الواقع نهاية الجو الصحو، ومن ثم ضمان أمنها وعزلتها، وسرعان ما تبتل الرمال وتفقد صلابتها فلا يجرؤ صياد على عبور الغابات الرطبة العارية.

وما عساه يكون من أمر الأرنبين المسكينين؟ ما عساه يحدث لهما في ذلك الجحر الصغير؟"

غلاف كتاب

D 25 تموز (يوليو) 2011     A عود الند: أدب عالمي     C 0 تعليقات