د. عبد الحميد صيام - الولايات المتحدة
نصير عاروري الإنسان
ضحكنا وبكينا أنا وزوجته جويس ونحن نتكلم عن نصير الإنسان.
قلت لها لا أريد أن أكتب عن نصير الأكاديمي، فذاك الجانب أعرفه جيدا، وكتابه "فلسطين والفلسطينيون" الذي وضعه مع المرحوم سميح فرسون من الكتب المقررة في المساق الذي أدرسه عن الصراع العربي الإسرائيلي في جامعتي. وكتابه "الوسيط غير الشريف" عن سياسة الولايات المتحدة تجاه فلسطين على قائمة الكتب المقترحة لنفس المساق.
ولا أريد أن أتحدث عن نصير الناشط، فهذا الجانب أعرفه كذلك، فقد جمعتنا كثير من اللقاءات والمؤتمرات والمنظمات العربية والفلسطينية. أعرفه محاضرا ومنظما وقائدا وقدوة لنا لسنين طويلة.
أريد أن أتحدث معك ومع أولاده عن الجانب البسيط الإنساني في نصير كزوج وأب وصديق، فهذا الجانب هو الذي يخفى عليّ وعلى الكثيرين من محبي نصير، وهم كثر، في المهجر الأمريكي وفي الوطن العربي.
"أتعرف يا صديقنا؟" قالت جويس، "لقد تزوجنا في الثاني عشر من شباط/فبراير 1961، وتوفي نصير بين يدي وأمام أولاده يوم الثاني عشر من شباط/فبراير 2015".
أكملت جويس بعد أن أجهشت بالبكاء وأبكتني معها: "لقد قضينا أربعا وخمسين سنة من الحب والرفقة والزمالة والأيام الحلوة دون أن ينغص حياتنا شيء. أتعرف السر في هذا الوئام؟"
أضافت:
إنها الثقة والحرية. لقد كنت أنا مدبرة البيت بامتياز. يعرف أنه لا يعرف في شؤون البيت. يعرف أنه لا يحسن أن يضرب مسمارا في حائط ولا يتقن طيّ غطاء. كنت المسؤولة عن كل تفاصيل البيت صغيرها وكبيرها ولم يتدخل يوما في حريتي أو يسالني لماذا عملت كذا.
حتى شراء البيت حاولت أن يكون مفاجأة له فلم ينفعل كثيرا ولم يعلق أو يسأل كيف استطعت أن أجمع المبلغ الذي دفعته مقدما لأنه لا يريد أن ينشغل بأمور في رأيه صغيرة.
أخطأت مرة وطلبت منه أن يصلح خللا بسيطا في مغسلة الحمام. تركته قليلا وأنا لا أعرف إن كان سيتقن القيام بهذه المهمة، لأعود وأكتشف أنه استعمل الشاكوش فانتهى الأمر إلى تكسير المغسلة بكاملها وكان لزاما عليّ أن أذهب إلى محلات هوم ديبو المتخصصة في البناء وإصلاح البيوت لأشتري مغسلة جديدة بدل تلك التي هشمها بشاكوشه.
حاول عدة مرات وأولادنا صغار أن يحلق شعورهم، فانتهى الأمر إلى مناظر تثير الضحك على الطريقة التي كانت أقرب إلى حراثة الأرض منها إلى حلاقة الشعر، وكان الأولاد يتعرضون للنكات من أولاد الجيران وزملائهم في المدارس الابتدائية على التسريحات العجيبة التي كانت تنتهي بها ممارسته للحلاقة.
جمال، ابن نصير، يؤكد نفس الفكرة ويقول إن والده لم يكن يعرف الفرق بين رميات البيسبول وهجمات كرة القدم الأمريكية.
حتى عندما كان نادرا ما يأتي لحضور مباراة لي أو لأحد إخوتي فارس أو حاتم كان يشاركنا من قبيل المجاملة ولم يكن يستمتع بشروحنا المفصلة كيف خسرنا المباراة أو كسبناها.
كنا نتمنى أنه لو يشاركنا النقاش حول الرياضة لا حول الإمبريالية والعنصرية. كان يصر أن يأخذنا معه إلى المظاهرات الصغيرة منها والكبيرة. أذكر ونحن أطفال أخذنا معه إلى مظاهرة ضد مطعم يتسم بالعنصرية ضد السود.
كان والدي مسكونا بقضية العدالة الاجتماعية التي حرم منه شعبه الفلسطيني. لقد ربى أولاده الأربعة على حب فلسطين وكذلك أحفاده الثلاثة عشر. لا يتردد أحد منهم عند تلقيه السؤال من أين أنت بالقول إنه فلسطيني. يستغرب المعلم الجواب لأنه يتوقع أن يقول "من سبرنغ فيلد بولاية ماساتشوستس".
لقد كان والدي ناشطا وأكاديميا في نفس الوقت، إلا أن النشاط كان السمة الأبرز والأقرب إلى قلبه. قضى معظم سنين حياته يناضل من أجل فلسطين وقضايا العدالة والحرية.
وفي الوقت الذي انتشرت فيه ظاهرة المساومة والقبول بأنصاف الحلول مقابل الأضواء والمراكز والفرص الواسعة، ظل والدي محافظا على مبادئه التي آمن بها، فلم يساوم ولم يتملق، ولكنه لم يكن متعنتا ولا عنيدا ولا مكابرا.
من أجل فلسطين كان يطير لإلقاء المحاضرات ويجلس مع الطلبة لدعمهم أثناء إنشائهم لجمعية أو اتحاد أو ناد من أجل فلسطين. فلسطين كانت هواه وقلبه النابض وحبه الأبدي والتزامه الخلقي والسياسي والعقائدي والروحي.
كان حريصا أن ينقل حب فلسطين إلى أولاده لا عن طريق المحاضرات بل بالتعرف على فلسطين وأهلها وقراها.
تابع جمال رواية بعض من ذكرياته مع الوالد:
وأذكر أن أول زيارة لي عام 1972 عندما كنت في الخامسة. كان والدي يدرس في جامعة الكويت. وبدل أن نقضي الإجازة في الولايات المتحدة اصطحبنا إلى القرية التي ولد فيها واسمها "برهام" وهي ليست بعيدة عن قريته الأصلية "عارورة".
ومنذ ذلك الوقت ونحن نزور فلسطين أنا وإخوتي. تعرفنا عليها عن قرب والتقينا بأهلنا وأقاربنا وتعرفنا على أرضنا وشاهدنا المستوطنات تنتشر على جسم الوطن كأنها حبات الجدري.
كل صيف يزور والدي الوطن ونلتقي به هناك أنا أو أحد إخوتي أو أختي ليلى. كان يفضل أن يعبر إلى الوطن عن طريق الجسر كي يتجنب جلسة الاستجواب الطويلة في المطار.
لكنه اضطر في زيارته الأخيرة عام 2010 أن يدخل عن طريق المطار لوهن في الجسد. مر بدون سؤال أو إعاقة لكنني خضعت لاستجواب لمدة ساعتين خصص جزء منه عن والدي وكتبه ونشاطاته. وسألني أخيرا وأين والدك الآن؟ قلت له إنه ينتظرني مع سائق السيارة في الخارج منذ ساعة ونصف.
لقد تعلمت أنا وإخوتي من الوالدين "القيم العائلية" الحقيقية لا كما يدعيها المحافظون الجدد من كبار الأثرياء، بل تلك القيم التي تتمحور حول الرحمة واحترام حقوق الإنسان والمساواة التامة بين البشر.
لقد فتحت عيوني على أم رقيقة ووالد ذي مبادئ تكفي لتصحيح مسارات الملايين، ووجدت أن احترام الآخرين ومعاملتهم برفق واحترام، والتواضع والبساطة هي من أعظم الموروثات التي يمكن أن آخذها عن والدي وأمررها لأولادي.
وأذكر ونحن صغار كانت والدتي تذهب بسيارتها لإحضار سيدة تساعدها في تدبير شؤون البيت لوجود أربعة أطفال. كانت تلك السيدة متخلفة ذهنيا قليلا. فقلت لأمي لماذا لا تختارين سيدة أخرى لمساعدتك تأتي بسيارتها بدل أن تحضريها وتعيديها بسيارتك؟ فقالت: "لو لم نشغلها نحن فلن تجد أحدا يشغلها".
كم تأثرت بهذه القصة التي ظلت ترن في أذني وعلمتني شيئا عظيما عن والدين يتمنى كل طفل أن يكون لديه مثلهما. لقد غرز في أنفسنا جميعا حب العلم والمثابرة والعمل الجاد وقد تخرجنا جميعنا من أفضل الجامعات وعبرنا طريق المهنية العالية والاستقرار العائلي معا.
قالت جويس:
قال لي في ذلك اليوم إن أوان الرحيل قد دنا. قلت له كل شيء فيك عادي: دقات القلب والسكري والضغط.
لكنه عاد وأكد أنها ساعة الوداع. وبالفعل توفي على سريره بهدوء وسكينة، ورأسه مرتكز على ذراعي وأولادنا الأربعة من حوله.
مات بهدوء تجسيدا لهدوئه ورقته الدائمين. وهذا ما سنحمله معنا إلى الأبد من ذكريات طويلة وجميلة، ولا أعرف كيف سيكون عالمي القادم بدون نصير.
◄ عبد الحميد صيام
▼ موضوعاتي