عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

طه بونيني - الجزائر

لغة النوارس


طه بونينيكان هناك رجل قليل الكلام دائم الابتسامة، بسيط الصورة، رثّ الهندام، يعمل إسكافيا في مدينة من مدن الجزائر الساحلية، كثيرا ما يُرى حاملا كتابا يقرأه. وإذا أتاه زبون، وضع كتابه ورحّب به ثمّ انكبّ على العمل فإذا فرغ منه عاد إلى كتابه.

ذات يوم أتاه رجل غنيّ، تبدو التعاسة في سحنته الصفراء الشاحبة. قَدم إليه ليسأله وهو يرجو أن يفتَكَّ منه قسطا من الحكمة تعيد الابتسامة لثغره. وطرح عليه سؤالا قديما، ما فتئ الناس يسألونه إيّاه:

"ما سرّ سعادتك رغم ..."

وتردد الغنيّ في إكمال كلامه، فأكمل الإسكافي: "تريد القول: رغم حالي البائس".

قال الغنيّ: "نعم".

"لأنّك نسر وأنا نورس"، قال الرجل البسيط.

تعجّب الغنيّ لأمره. وانقشعت غيوم الحيرة من فوق رأس الغنيّ، عندما أعقب الإسكافيّ كلامه:

كنتُ صيّادا في ربيع عمري، ثمّ هاجت عليّ أيام الشباب ونادتني رياح أوروبا المنعشة، فلبّيتها وتركت عائلتي وراء ظهري. ركبت قاربي الذي كان يحمل الأسماك، والذي حَمَلَني في ذلك اليوم المشؤوم إلى الأسماك لتأخذ بثأرها منّي.

أقلعت باكرا في خلسة، من مكان بين الصخور، تكبّدت عناءً للانطلاق منه، هروبا عن أعين حراس الشواطئ، وكان اليوم عيد الفِطر.

أتدريِ ماذا يعني لطفل صغير أن يستيقظ فلا يجد أباه في يوم العيد، وعندما يسأل عنه، يقال له: ذهب وربما لن يعود؟

هكذا قيل لولدي. وبعد ساعة من شقّ عباب البحر، تغيّر الجوّ وتلاطمت الأمواج وهاج اليمّ وماج وراح يُرغي ويُزبِد حتّى صار قاربي لقمة سائغة للبحر الغاضب، ولست أذكر إلّا أنّ قاربي صار في لحظة تحت أعطاف البحر، وكنتُ أنا أكابد عناءَ الخروج إلى سطحه، ثمّ لا أتذكّر بعد ذلك شيئا، حتّى فتحتُ عينيَّ على شاطئٍ من شواطئ جزيرة سردينيا.

أوّل ما فعلت أنّي شكرت الله بعدما تأكّدت أنّي حيّ أرزق، وأنّه قد كتُبت لي بقيّة من حياة.

أتذكّر أنّي لم أقوَ على الحراك. لقد كان جسدي مرهقا، وكأنّما كانت تشدّني رمال الشاطئ لترجعني إلى البحر الذي لَفَظَني إليها، بل هي العناية الإلهية، شاءت أن تُمهِلَني فرصة ثانية.

ومع ذلك التعب، خامرني شعور بالندم لما فعلتُ سابقاً وجعلت أعاتب نفسي وألومها: كيف بلغت بيَ الأنانية هذا المبلغ، حتّى تخلّيتُ عن مسؤولياتي وراهنت بحياتي للوصول إلى شاطئ الموت؟ ثمّ عاهدت نفسي أن أعود لأصلح ما فات.

ثمّ تفتّحت حواسّي فسمعت أصوات الطيور، وحوار المدّ والجزر، وشعاع شمس الصباح الدافئ. ثمّ تفتّحت عيناي أو كادتا، وعندها رأيت منظرا مدهشا.

نورسكان الشاطئ يعجّ بطيور النورس التي كانت تمشي بجانبي، ثمّ تطير، تصيح، ترتفع في السماء، تتمايل وتتراقص مع خيوط النسيم.

بقيت كذلك أحدّق بعينين متعبتين، وفي لحظة ما نسيت نفسي ولم أعد أرى إلّا كائنات تطير طَرِبة فرحة مَرحة، تعتمد في حياتها على الهواء الذي يحمل أجنحتها وعلى غذائها المتمثّل في الطحالب وعلى رمال الشاطئ الذهبية وكفى.

وفي تلك الحالة، بينما أستلقي على الشاطئ، وردني سؤال. وكنت في شبابي كثير التفلسف، قليل الرضا، أطرح الأسئلة التي لا تجد صدى أو إجابة، لكنّ ذلك السؤال كان مفتاحا لبابٍ أدخلني لعالم من الرضا والغبطة: هل يخالج طائر النورس خلال تحليقه شعور ما؟

واخترت جوابا لأنّ عقلي لم يتقبّل جوابا غيره. فكلّ المؤشّرات تدلّ على فرحة عارمة يعيشها هذا الطائر، وهو يستمتع بالبحر، وبالطيران غير آبه بأي شيء.

رأيته في الجوّ سابحا وصائحا وصادحا، يلامس الأجواء في سعادة ويهبط إلى الأرض في سعادة، ثمّ يعود ليطير مع أترابه في سعادة.

ورغم أنّه يملك جناحين، فهو لا يطمع أبدا في مغادرة الشاطئ، والهجرة إلى ما وراء البحار، ويرضى أن يعيش حيث ترتاح نفسه.

افترضت أن هذا الطائر يحسّ حقّاً، ثمّ تخيّلت نفسي نورسا، فأحسست بمقدار من السرور يتملّكني، لو وُزّع على الناس جميعا لكفاهم.

وعندما استجمعت بعد ذلك شتات نفسي، واسترجعت قوّتي، تدبّرت في أمر هذا الطائر وفي أمري، وتعلّمت درسا.

سكت الرجل البسيط، ثمّ قال للغنيّ الذي كان يستمع وعلامات الذهول والحيرة تلوِّن وجهه:

"أمّا الناس يا صاحبي، فلا يعيش بعضهم إلّا متوجّسا مختبئا، يترصّد وثَبَات مفترسه كأرنب خائف، والبعض الآخر فيعيش مُرتفعا عن الأرض، شاهقا فوق السحاب كنِسر لا يهبط إلى مستوى الخلائق إلّا ليقتنص آخر أنفاس طريدته".

ثمّ سكت الرجل الحكيم كأنّما يُعلن نهاية كلامه، فسأله الغنيّ: "بِمَ تنصحني إذن؟"

فقال الرجل الحكيم: "ألَــَم تفهمني حتّى الآن؟ لعلّ النسور يا صاحبي لا تفهم لغة النوارس".

D 26 شباط (فبراير) 2015     A طه بونيني     C 6 تعليقات

3 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 105: التسامح والمساواة والآخر في ندوة أدونيس

إشكالية تطبيق المصطلح اللساني في الدراسات اللغوية العربية

الجسد والقلب والعقل

هل سرق طه حسين رواية "منصور" لأحمد ضيف؟

قراءة في رواية مولانا