الطيب عطاوي - الجزائر
إشكالية تطبيق المصطلح اللساني في الدراسات اللغوية العربية
إن الحديث عن المصطلح هو الحديث عن فحواه ومعناه داخل أي لسان؛ لذلك فإنه لزاماً أن نجد الكثير من العلماء على اختلاف مشاربهم قد أوْلَوْا عناية كبرى لهذا المفهوم؛ وذلك إما بتعريفه أو بطريقة عرضه وتوظيفه داخل حقل من الحقول.
والمصطلح يشكل حيزاً كبيراً لا غنى عنه لأي كتاب، مهما كان نوعه، فهو الوسيلة الأساسية التي تـُبنى عليها ثقافة أمة من الأمم من خلال الاعتناء بلسانها، ومن ثم بمصطلحاتها.
إن ما تشهده الأمم من تطور هائل اليوم في التكنولوجيا والتحكم فيها لهو دليل واضح على سرعة ظهور مسميات جديدة لأشياء جديدة؛ إذ بات يشكل المصطلح هاجسَ كل الشعوب؛ بل الأكثر من ذلك أصبح علماً قائماً برأسه يدعى: علم المصطلح (Terminologie).
مفهوم علم المصطلح
يعرف علم المصطلح بأنه "العلم الذي يبحث في العلاقة بين المفاهيم العلمية، والألفاظ اللغوية التي تعبِّر عنها، أو لفظ موضوعي يؤدي معنى معيناً بوضوح ودقة"(1).
ولقد كان لاهتمام علماء العرب قديمهم وحديثهم عناية كبرى بهذا العلم، وحتى إن لم يكن معروفاً عندهم بهذه التسمية المخصصة؛ إلا أنه تحدَّث أمثال الجاحظ وسيبويه والشريف الجرجاني وغيرهم عنه داخل حقول اللغة المتشعبة؛ فالجاحظ عندما يتكلم على جانب الخطابة عند العرب وفصاحتهم يقول بأنهم "تخيَّروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا لذلك سلفاً لكل خلف، وقدوة لكل تابع"(2).
إن قول الجاحظ هذا يؤكد أن العرب كانوا ينحتون ويشتقون ويبدلون ويغيِّرون، وكيف لا ونحن نسمع مراراً وتكراراً بتلك الألفاظ التي كانت تدل في وقت مضى على معان ٍخاصة، ومع مجيء الإسلام تغيَّر معناها إلى دلالات أخرى كالصلاة والنافلة والصوم، أو لا يُعَدُّ هذا توظيف للمصطلح في بيئته تلك؟
ولنا في علماء النحو خير دليل على أنهم كانوا يتعاملون بالمصطلح للتعبير عن قضايا ومفاهيم نحوية، فمثلا البصرة استعملت مفهوم المصروف والمنصرف لتدل بهما على "وَصْفُ الاسم المنوَّن غير الممنوع من الصرف نحو محمد وعلي وشجرة وكتاب"(3)؛ واستعملت الكوفة بدورها مصطلح النعت لتدل به على "التابع الذي يكمِّل متبوعه ببيان صفة من صفاته"(4). كما كان لعلماء البلاغة مصطلحات خاصة بقيت دلالاتها سائرة لحد اليوم؛ مثل: الكناية، الاستعارة، الإطناب، إلى آخره.
ولا نبالغ في الحديث إذا قلنا إن المصطلح شهد قفزة نوعية عما كان عليه في القديم؛ حيث مع مطلع العصر الحديث أصبح علماً له أسسه وركائزه، فلم يعد ذلك التأليف المتداخل في سائر العلوم؛ بل صنـِّفت كتب مختصة كلها تدل على حقل معرفي من العلوم، ويظهر ذلك جلياً عند اتصال العرب بغيرهم من الأمم الأخرى (عصر التفتح والنهضة).
ويعد رفاعة الطهطاوي من الأوائل الذين اتصلوا بالحضارة الغربية، وقدَّم مجموعة من المصطلحات، وتبعه في ذلك علماء آخرون أمثال: أحمد تيمور وأمين معلوف الذي ألف معجماً للحيوان، ووضع محمود السعران قائمة من المصطلحات العربية وما يقابلها بالانجليزية، إلى آخره.
ولقد أظهرت الأبحاث اللغوية التي قام بها المحدثون بأن اللغة مهما كان جوهرها وخصوصيتها ليست بمنأى عن التطور والتبدل في مفرداتها، والعربية بدورها قد أصابها هذا التغير والتحول في مفرداتها.
ومادام المصطلح هو في أول الأمر عبارة عن لفظ له دال (signifier) ومدلول (signifiant) فإنه يتأثر بدوره بهذا التغيير الذي يصيب بنية الكلمة.
غير أن هذا الأمر لا يمكن أن نطلق حابله على نابله؛ فليس كل شيء في اللغة يتغير؛ بل إن هناك ما يثبت على حاله؛ لأن "الذي يتغير في اللغة باستمرار هو بنيتها التركيبية، لأن البنية التركيبية من صنع المتكلم، وهو مهندسها"(5).
المصطلح اللساني
لقد شكلت اللسانيات في العصر الحديث ثورة كبيرة خاصة مع مجيء فيردينان دي سوسير، وشهد حقل الألسنية كـمًّا هائلا من المصطلحات والمفاهيم الجديدة. والمصطلح في مفهومه العام، كما يعرِّفه أحمد بوحسون، هو: "كلمة أو مجموعة من الكلمات تتجاور دلالتها اللفظية والمعجمية إلى تأطير تصورات فكرية، وتسميتها في إطار معين، وتقوى على تشخيص وضبط المفاهيم التي تنتجها ممارسة ما في لحظات معينة"(6).
إن المصطلح اللساني كغيره من المصطلحات الأخرى التي وفدت إلينا يجد نوعاً من الحرج في توظيفه واستعمالاته؛ كونه يخطو اتجاهاً خارج اللغة العربية بعيداً عن الاشتقاق والتوليد من جهة، ومعتمداً على التعريب والترجمة من جهة أخرى.
ويمكن أن ينظر إلى واقع اللسانيات العربية عامة ومصطلحاتها خاصة من خلال مرحلتين من الزمان، امتدت الأولى من صدور كتاب علم اللغة للدكتور "علي عبد الواحد وافي" إلى عقد السبعينيات. على حين امتدت الثانية مع السنوات الأولى من ذلك العقد إلى نهاية القرن العشرين تقريباً.
ويلاحظ أنَّ ما صار يعرف بأزمة المصطلح اللساني ومشكلات الترجمة كان نتاج المرحلة الثانية التي شهدت توسعاً مطرداً اتفق مع توسُّع الدرس اللساني في أوربا وأمريكا مع منتصف القرن العشرين(7)، على عكس الأولى فلم تشهد ذلك؛ إذ "اقتبس الدكتور وافي الكثير من المصطلحات اللسانية في كتابه علم اللغة الصادر عام 1940 ووضع ترجمات صحيحة، نحو: علم اللهجات وعلم المفردات وعلم الدلالة وعلم البنية وعلم الأساليب وعلم أصول الكلمات وعلم الاجتماع اللغوية وعلم النفس اللغوي وعلم اللغة وغير ذلك. وكذلك فعل المؤلفون التالون دون أن تظهر مشكلة المصطلح اللساني لديهم؛ كالدكتور إبراهيم أنيس في كتابه الأصوات اللغوية عام 1947، والدكتور تمام حسان في كتابه مناهج البحث في اللغة عام 1955، والدكتور محمود السعران في كتابه علم اللغة: مقدمة إلى القارئ العربي عام 1962، والدكتور عبد الرحمن أيوب في كتابه أصوات اللغة عام 1963، والدكتور كمال بشر في كتابه علم اللغة العام عام 1970، والدكتور محمود فهمي حجازي في كتبه: علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة عام 1970، وعلم اللغة العربية عام 1973 ومدخل إلى علم اللغة عام 1978"(8).
عوائــــق توظيف المصطلح اللساني وترجمته
مما لاشك فيه أن قضية المصطلح تشكل قطباً قائماً بذاته؛ إذ لا غنى لأي علم من العلوم الاستغناء عنه؛ فهو بمثابة المحرك أو الدليل الذي يتعارف به الناس، وهذا شيء بديهي مادام أنه يتشكل من مفهوم (concept) وصورة سمعية (image acoustique) كما نعته دي سوسير. غير أن المشكل لا يكمن هنا؛ لأنه باستطاعة أية أمة من الأمم استقبال عدد لا بأس به من هذه المصطلحات؛ إنما المشكل يكمن في كيفية التعامل معه ونقله من لغة إلى لغة أخرى.
واللغة العربية واحدة من هذه اللغات؛ حيث تستقبل العديد من المصطلحات نتيجة التطور الهائل الذي تشهده التكنولوجيات، وما تذره الأبحاث العلمية من مخترعات جديدة. ووراء هذا الأمر سبب جوهري هو الذي ترك الفجوة واسعة إلى حد ما بين المصطلح وتوظيفه ألا وهو مشكل اختلاف الترجمات.
وإن أهم ما يتسم به وضع المصطلح هو طابعه العفوي، حيث قادت هذه العفوية إلى كثير من النتائج السلبية، وفي مقدمتها الاضطراب في وضع المصطلح، والفوضى في تطبيقه، وعدم تناسق المقابلات المقترحة للمفردات الأجنبية(9).
ومن ذلك: تكرار الاختلافات القديمة في المصطلحات الحديثة؛ كالخلط بين الحلق والحنجرة للتعبير عن (Larynx)؛ والاختلافات الناتجة عن نوعي التعريب والترجمة لأسباب مرحلية، مثل: الصوت اللغوي، الفونيم، الصوتيم مقابل (phonème)؛ والاختلافات وتحويل المصطلح من مفهوم حديث إلى مفهوم حديث آخر؛ مثل: الألسنية لــ(dialectologie)، وعلم الألسنية لـ(linguistique). إضافة إلى أنه ينعت بـ: علم اللغة العام، علم اللغويات الحديث، علم اللسان، إلى آخره.
كما أن هناك مشاكل أخرى وراءه باعتبار اللسانيات "تعاني ما تعانيه العلوم المقترضة من مشكلات تتصل بوضع ثمرات الدرس الأجنبي في متناول الباحثين العرب من حيث اللغة والأسلوب والطرق المنهجية"(10)، ومن هذه المشاكل: عدم الاتفاق على منهجية محددة عند وضع المصطلح؛ وحداثة المصطلحات اللسانية قياساً على المصطلح العلمي الذي صار له قِـدم نسبي وشيوع مقبول؛ وكثرة المصطلحات المتداولة في الكتب والدوريات والمؤتمرات اللسانية وتداخلها.
وتعتبر اللغة العربية لغة توليد واشتقاق وما شابهها، وعلى الرغم من ذلك فإن العرب لازالوا يحتمون بالمصطلحات الدخيلة، ولا يستطيعون التحكم في كيفية التعامل معها نظراً لعدم توحيد المصطلح في أكثر الأحايين، ويحدث هذا على الرغم من أننا نتكلم اللغة نفسها من المشرق إلى المغرب، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور العديد من المحاولات لتوحيده في هذا الشأن؛ إذ تعددت المجامع اللغوية عبر الوطن العربي، وكان لكل منها طريقة معينة في كيفية وضع المصطلح الوافد من الحضارات الغربية والتعامل معه.
وعلى سبيل المثال عندنا في الجزائر المجمعي عبد الرحمان الحاج صالح الذي بيَّن بأن طريقة وضع المصطلح لا ينبغي أن تخرج عن النقاط الآتية:
= التعريب اللفظي للمصطلح الأجنبي الترجمة الحرفية تخصيص أو ارتجال لفظ له بكيفية عفوية تخصيص لفظ عربي بعد البحث عنه في القواميس القديمة(11).
ولو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر مجمع سوريا في وضعه للمصطلح نجده يتبع الطريقة التالية(12): تحوير المعنى اللغوي القديم للكلمة العربية وتضمينها المعنى العلمي الجديد؛ واشتقاق كلمات جديدة من أصول عربية أو معربة للدلالة على المعنى الجديد؛ وترجمة كلمات أعجمية بمعانيها؛ وتعريب كلمات أعجمية وعدُّها صحيحة.
وعلى الرغم من المجهودات المبذولة في هذا الميدان إلا أن هذه المجامع وغيرها من المؤسسات العلمية اللغوية لم تتوصل إلى نقطة الالتقاء المنشودة والتي تحفظ لها شرف هذه اللغة، فهناك العديد من المصطلحات التي يقرُّها مجمع ما ولا يكتب لها الخروج إلى النور؛ وحتى إن خرجت فإنها تتصادف بعوائق ناجمة عن سوء توظيفها في الميدان المناسب، وكل هذا راجع في أغلب الأحيان إلى العفوية التي تحاصره من جهات عدة.
إذن لابد من التخلص من هذه العفوية لأنها هي سبب البلوى الذي تعاني منه الأمة العربية في طريقة وضع هذه المصطلحات، وإشكالية تطبيقها في الدراسات اللغوية مما أدى إلى العبثية في التعامل معه.
= = = = =
الهوامش
(1) المؤسسات العلمية وقضايا مواكبة العصر في اللغة العربية، صالح بلعيد، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995، ص 05.
(2) البيان والتبيين، عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة (مصر)، ط 3، ج 1، (د ت)، ص 102.
(3) معجم المصطلحات النحوية والصرفية، محمد سمير نجيب، مؤسسة الرسالة، بيروت (لبنان)، (د ط)، (د ت)، ص 226.
(4) المرجع نفسه، ص 226.
(5) اللغة والتواصل، عبد الجليل مرتاض، دار هومة، الجزائر، 2000، ص 108.
(6) مجلة المصطلح، مقال بعنوان: بين المفهوم والمصطلح " المصطلح اللساني نموذجاً "، بوعناني سعاد آمنة، العدد 01، مارس، تلمسان (الجزائر)، 2002، ص 224.
(7) مجلة مجمع اللغة العربية، مقال بعنوان: اللسانيات والمصطلح، أحمد قدور، الجزء الرابع، المجلد 81، دمشق (سوريا)، ص 08.
(8) المرجع نفسه، 09-10.
(9) اللسانيات واللغة العربية، عبد القادر الفاسي، منشورات عويدات، بيروت – باريس، 1986، ص 394.
(10) مبادئ اللسانيات، أحمد محمد قدور، دار الفكر، دمشق (سوريا)، ط 2، 1999، ص 28.
(11) المؤسسات العلمية وقضايا مواكبة العصر في اللغة العربية، صالح بلعيد، ص 11.
(12) في قضايا فقه اللغة العربية، صالح بلعيد، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1995، ص 259.
◄ الطيب عطاوي
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
إشكالية تطبيق المصطلح اللساني في الدراسات اللغوية العربية, عبد الحفيظ بن جلولي/الجزائر | 3 آذار (مارس) 2015 - 11:21 1
تحية طيبة أستاذ الطيب:
شكرا على هذا الموضوع الذي جاء ليسد فراغ التعامل مع المصطلح كإشكالية لتحديد المفهوم وتواصل الخطابات.
كل التقدير والإحترام