عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إيناس ثابت - اليمن

إليك صديقي


مدخل

إلى من كان هنا، زرع بستانا في قلبي ولون جدرانه بالأبيض، وأحال أرضي جنة خضراء، لمن رأته روحي ولم تره عيناي وعلمني كيف اصنع سلم الصبر، وكان بالقرب مني حين ماتت الأرض وبث نور الله فيها.

لمن زارني حلما والتقته روحي في عالم الغيب، لمن أرجوه أن يكن شمسا لا تغيب، وإن نامت عيناي للأبد وغاب قلبي وسكنتُ الثرى، فابق بقربي وجُد لي بالدعاء، وستراني في ضحكة الطفل وفوق كل أرجوحة ألهو، في دمع عينيك ولحنك الهادي وفي الأمل.

لمن كان حلما، سرا أو خيالا سأكتب لك فاسمع صوتي فلعلنا هنا نلتقي، فأنت مني، صديقي، صوتي، لحني، رفيقي وقلبك مرآة ذاتي، فابق بقربي وهيا نغنى.

إليك صديقي

سأخاطب روحك وأسرد الآن ما جرى ولا أعلم إن كان كل هذا من محض خيالي أو حقيقة استثنائية.

كنتُ على أرجوحتي ألهو، خيوط الشمس تغازل جدائلي وفستاني الأصفر المنقوش بالأزهار والقلوب يضاهي لون الشمس جمالا، أُغمض عيني وأطير عاليا، أشم عطر الليمون، اسمع صوت عصفوري في أذني، أعدُّ الأرقام سريعا لأعود أشاكس بقدميّ الأرض، أرضي الخضراء المعطرة بالندى وبلاد الله كلها أرضي.

أرجوحةارتفعت أرجوحتي عاليا تسع مرات أُقبِلُ فيها وجه الشمس وتمدني دفئا وحنانا. حين حان دور طيراني العاشر، لامست وجهي ورقة صغيرة حملتها الرياح ثم حطتها على ثوبي، دقت قدماي الأرض ولم تُدغدغ بالعشب الأخضر، لسعتني حرارة، فتحتُ عيني لأجد الأرض تبدلت، تحول العشب رملاً يسكر من شُرب الدماء والماء ألواح مرايا، وقدماي تصبغتا باللون الأحمر القاني، حتى صوت عصفوري اختفى.

نظرت للورقة، كانت بلون غيمة لم تمطر وعينٌ تكاد أن تدمع مرسومة فيها، خُطت بداخلها خمس كلمات: "تحت ظل غيمة كان ميلادي". خبأت الورقة في جيب فستاني وأدهشني مظهره فالقلوب تفتّتت والأزهار اسودت.

قمت من فوق أرجوحتي انظر للكون حولي، كانت الأرض حطاما تئنُّ من مطر الرصاص والناس ترقد عظاما في العراء بلا حراك شاخصة أبصارها نحوي والبعض رفاتا. رفعت رأسي للسماء فكانت كالحمم مليئة بعيون الذئاب.

لمحت غيمة ليست بالبعيدة، ركضت فزعا نحوها والدمع يسبق خطوتي، ورأيت وجهك فوق سطح الماء كالكوكب الدري في جنح الظلام، كحمامة بيضاء في عينك اليمنى شرارة وبكفك نبتت حقول. وحدك تحت ظل غيمة تُقبل جبينا على الأرض استراح، دموعه انسكبت على خدك ودماءه لونت صدرك، صعدت روحه للسماء، شقّت غيمتك وارتقت. همس في أذنك قبل أن تصعد روحه: "غني باسمي يا صديق".

أقامت عيون الذئاب مهرجانا في السماء ونادى صوت يختنق من بعيد: "أراك من سبع سماوات، أطفئوا شموع الأرض يا ولدي".

رفعت رأسك تستجيب للنداء ثم خبأت حزنك تحت ظل غيمتك ونظرت نحوي، عقدتَ حول يدي خيطا من حرير أخضر ومضينا في درب وعر.

كانت الأرض تنفث دخانها وتبعث جماجمها من القبر، لفت الجماجم سلاسل حول الأرض واعتصرت، وسكنت الصقور فوق أفواه الجثث وسالت عيون الذئاب دماء ورصاص.

توقفنا عن السير، وصلتَ خيط يدي بيدك، تأملتُ وجهك فرأيت كلمات المقاتل وصيحة الله اكبر تخضر فوق حنجرتك، ولحنا للسلام فوق شفتيك يتباهى، شققتُ صدرك فرأيت سورة الرحمن وصحائف القرآن ونافذة مجنحة من خلفها طل الربيع وجنة تفيض من كرم العنب ونبض قلب سره إنسان.

ركضت فصارت الأرض حقولا وطار سرب من الحمام خلفنا، وحُفر فوق الصخر آثار فارس حنون وعابد صنديد . امتدت يدك اليمنى تنفث سحرا للرمال، ترسم بلادا يستريح لها الفؤاد والعيون الساهرة، تُمليها كيف يكون العدل والإيمان، وعلى غفلة مني خططت بنود الخير وطبائع الفرسان وكيف نصنع مجدنا من خبز ومن دفتر.

حطمتَ الأصنام في ركن الظلام وملأت الأحلام نورا ونثرت فوق مسارح الدنيا الفرح وأعدت للأرض الضياء، وبالصبر صنعت سلالم للفضاء، نادت سلالمك: مدوا فضائي.

فنبتت فوق الأرض البور زهرا وتبدل كل الشوك وردا. وفوق جدول مائنا الفضي رحت تصنع زورقا وبصوت مزمار رحيم غنيت وصوتك يعلو ثم يعلو حتى رسم في الفضاء وجها يلوح بالأمل ألقى على قلبي الحزين قطعة شهد.

غابت غيمتك، واختفت عيون الذئاب وبانت في السماء عيون كصفاء الصبح تضحك، ميزتُ منها عين صديقك وعينا من حنان تنظر نحوك، رفعت رأسك لأجلها وقلت: أمي ذابت شموع الأرض، ووحدي أشعلت الشرارة.

ووضعتْ في يدي حبة قمح وقلت لي: لا تكوني كالغير يغرق في السراب.

وبكبرياء غبت عني في الضباب. ووجدت نفسي فجأة على أرجوحتي والكون من حولي جنة.

حدثتُ عنك شمسي الحلوة وسألت عنك الليل والأضواء ونوارس البحر والكون الذي أزهر: كان لي صديق قبل قليل مر من هنا والكون تحطم، الليل يعرفه يطوي الأحزان بإشراق الصباح، والنار تعرفه دمع خشوع يجعلها سلاما، هو لا يميل أو يخون ولا يطوف حول أجياف الجثث، أكان حلما أم حقيقة؟

لم يجبني الكون والليل، فسألت الشمس: أخبريني أكان صديقي حلما أم حقيقة؟ لم تجبني، لكني رأيتك ولا زلت أراك عند منازل الشطآن ريحا وفوق مراكب البحر نجما مضيئا، كاللحن تزور قصائد الشاعر فتُسكنها القلوب.

فتحت يدي ورأيت حبة القمح. صرخت: أين ذهبت يا صديقا غرس في يدي حبة قمح؟

D 26 شباط (فبراير) 2015     A إيناس ثابت     C 10 تعليقات

5 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 105: التسامح والمساواة والآخر في ندوة أدونيس

إشكالية تطبيق المصطلح اللساني في الدراسات اللغوية العربية

الجسد والقلب والعقل

هل سرق طه حسين رواية "منصور" لأحمد ضيف؟

قراءة في رواية مولانا