زهرة يبرم - الجزائر
في غرفة الإنعاش
بعض من ضياء قرص الشمس الهاربة لتوها إلى مخدعها الليلي ما زال يبسط نفوذه على تلك المدينة الصغيرة التائهة في عمق الوطن، وعلى الجبال المترامية حولها. والدنيا تعيش لحظة فارقة بين الليل والنهار. وسيارة إسعاف عسكرية تقوض السكون بصفير إنذارها وهي تشق طريقا جبليا ترابيا ضيقا متجهة نحو المركز الطبي الكائن على أعلى مرتفع من المدينة.
تأوه وهو يستعيد وعيه عندما ارتطمت عجلات سيارة الإسعاف بعثرة على الطريق. ألم شديد يمزق كتفه الأيسر، أطلق صرخة وضغط بيده على موضع الألم، ثم تفحصها عندما أحس بلزوجة الدم المتدفق عبر سترته العسكرية السميكة، وارتخى مرة أخرى في إغماءة.
في غرفة بالطابق الرابع من المستشفى، همت صفاء، الطبيبة المناوبة ليلا بقسم الجراحة الإستعجالية، بغلق النافذة، لكنها توقفت قليلا أمام مشهد الجبال المترامية أمامها وهي تكتسي لونا رماديا حياديا ممزوجا من نور النهار وظلمة الليل. شَرَّعَتْ صدرها للنُّسَيْمَاتِ بينما قلق شفيف أحاط بقلبها فأشاع فيه شيئا من الانقباض.
إنه هناك يطارد فلول الإرهاب وعصابات التهريب. جندي من جنود الخفاء. خادم من خدام الوطن الذين يحملون أرواحهم على راحات أيديهم، وقد يَقْتُلُون أو يُقْتَلُون.
هذه الأرض التي رُسِمت كأبدع لوحة فنية بدماء الشهداء وبما كُتب من قصص بطولاتهم منذ عقود، ألم تكتمل اللوحة بعد؟ وهل ما زالت بحاجة إلى الدم من جديد؟
ما لبث الليل أن جنح وأرخى سدوله على الكون فغيب تفاصيله التي كان يفضحها النهار. خرجت من عمق روحها تنهيدة وهي تجمع بين فلقتي قفل النافذة وتدير مقبض التثبيت. ألقت نفسها على سرير هناك مغتنمة وقت الفراغ للراحة، فهي لا تدري ما يخبئه لها الليل الطويل من حالات طارئة.
استلقت على ظهرها مُشبّكة أصابعها خلف رأسها، وجنح بها التفكير إلى المرة الأولى التي جاءت فيها إلى هذه المدينة منذ أربع سنوات حين عينت بهذا المشفى بعد تخرجها مباشرة.
يومها تراءت لها الطريق بلا نهاية. كانت بدايتها من مدينتها الواقعة على جفون البحر، وأما النهاية فتفضي إلى المجهول. لكأنها كانت تبحر في التيه. أرض تصبح أقرب إلى الصحراء كلما أوغلت بها الطريق في المسافات الشاسعة. مرت بمناطق كثيرة لم تكن تعرف منها شيئا، وجاءت إلى هذه المدينة البعيدة بالمعنى النفسي والجغرافي، والغريبة عنها بشريا.
انتابها خوف من المجهول ونهشها القلق. سيطرت عليها الرهبة بالتناوب مع العزيمة والتحدي. صراع انتصر فيه التحدي والإصرار، وذاب فيه شبح القلق وطيف الخوف في غمار الأيام المتعاقبة وروتين الحياة. وها هي اعتادت على المكان وأثبتت ذاتها في الميدان. تتفانى في أداء مهنتها بحس إنساني وكفاءة عالية، وتخطو بثبات إلى عمق حياتها الجديدة.
استدارت على جنبها محاولة أن تنام، لكن هيهات للنوم أن يطرق أجفانها، فقد تذكرت من هو في الميدان يطارد عصابات المهربين وقطاع الطرق.
طَرْقٌ خَفيف على الباب أراح صفاء من أفكارها الثقيلة. دخلت ممرضة تخبرها بقدوم حالة طارئة حرجة، عسكري مصاب برصاصة. عسكري؟ وقفز قلبها إلى ظاهر صدرها رعبا. قفزت على قدميها واقفة مضطربة الحال. خرجت مسرعة في ذهول حتى أنها نسيت ارتداء مئزرها الأبيض، فعادت جريا لتلتقطه وتلبسه في الرواق المفضي إلى الباب الذي يفتح على غرف الاستعجالات، حيث العسكري الممدد على نقالة دون حول منه ولا قوة.
سارعت إليه وهي تتصنع الرصانة والوقار، بينما سلمت أمر قلبها إلى اللهفة والجزع يلعبان به كيفما يشاءان. لما صارت عند رأسه تفرسته وهو مستلق يتلوى من الألم. وضعت يدها على قلبها وزفرت زفرة ارتياح مكتومة، إنه ليس ذلك الذي يسكن في أعماق روحها.
تجمع كل أعضاء الفريق الطبي المنوطة به مهمة الاعتناء بالمصاب. فقد استقرت في كتفه رصاصة ونَزْفُه غزير. وضعه عسير يتطلب سرعة السيطرة عليه لإنقاذ حياته.
سارع كل عضو من الفريق للقيام بالأمر الموكل إليه في غرفة العمليات. وشرعت صفاء في فتح سترة المصاب على الجرح بمقص. لاحظت أنه يحمل نجمة ذهبية يتيمة على الكتف. فهي تتقن قراءة الرتب العسكرية من خلال الأوسمة التي ترصع الصدر والكتفين. فلم يخف عليها أنه ضابط ملازم متخرج حديثا وفي بداية حياته المهنية، لكن حظه السيئ لم يمهله وعجل له بهذه الرصاصة اللعينة.
كم هي صعبة حياة هؤلاء في بعض تفاصيلها! وكم تخفي بزاتهم الأنيقة خلفها من قصص ومتاعب وألم! ترميهم أقدارهم إلى أطراف الوطن الشاسع دون أن تكون لهم الخيرة من أمرهم. عبيد في هيئة سادة. لكن قد تكون لبعضهم قصص سعيدة.
كان المريض كلما فتح عينيه بين الفينة والأخرى، يشاهد فوقه وجها منقبا بنقاب طبي أبيض لا يتبين منه إلا عينين عسليتين مؤطرتين بالأسود. بدتا له جميلتين، تحومان في سمائه كحمامتي سلام لروحه المحمومة ولجسده المنهك. وكانتا آخر صورة رآها قبل أن يغيب عن الدنيا بفعل حقنة المخدر.
أما الميدالية المعدنية التي تحمل بياناته والتي تتدلى من سلسلة تطوق عنقه، فتشير إلى أنه صاحب فصيلة الدم النادر O- . وبنك الدم بالمستشفى مفلس، لا يتوفر إلا على كيسين فقط. ولا بد من ثلاثة أكياس على الأقل لإجراء العملية وإنقاذ حياته.
تم اتصال المستشفى بالمتبرعين الحاملين لنفس الفصيلة والمعتادين على تلبية النداء كلما دعت الحاجة. لكن الطبيب المشرف أظهر مخاوفه من تقاعس هؤلاء، وهو احتمال يعرض المريض إلى خطر الموت، وتكون سمعة المستشفى بعدها على المحك.
أما طلب المساعدة من المشافي الأخرى فهو أمر لن يجدي لبعد المسافة عن أقربها، إذ يستغرق الذهاب والإياب وقتا طويلا.
كان الطاقم الطبي يعيش أزمة حقيقية لمّا أسرَّت صفاء إلى الطبيب المشرف، الذي قرصه الهم، أنه بإمكانها توفير كيس دم ثالث بشرط أن ينوب عنها في إجراء العملية. استبشر الطبيب وقد أزيح عن كاهله عبء.
تسللت صفاء إلى المخبر وقدمت نفسها كأول متبرع بالدم، فهي تحمل تلك الفصيلة النادرة O-، إكسير الحياة المفقود. بعد الفحوصات الروتينية اللازمة وهبت صفاء شريانها ليسحب منه كيس دم عله ينقذ حياة ذلك الإنسان، وعلها تكون بمستوى صلابة هؤلاء الرجال.
انتهت عملية التبرع، وهمت صفاء بالوقوف لكنها أحست بدوار في رأسها وبتعب في جسمها فارتمت مجددا في مكانها.
الأمر بسيط وستكونين بخير مع الصباح، هكذا طمأن الطبيب المشرف صفاء، كيس مصل ووجبة غذائية غنية بالسوائل وسيتغلب جسمك الشاب سريعا على الوهن. معي إلى غرفة الإنعاش أيتها البطلة.
قضى الطبيب العجوز ليلته ساهرا على راحة شخصين أنقذ أحدهما الآخر في مشهد إنساني يدعو للتأمل. طبيبة شابة يصل كيس مصل بشريانها، مقابل دمها الموصول بشريان شاب جدير بالحياة، إذ هو لم يبخل بحياته دفاعا عن حمى هذا الوطن.
مع الفجر، كان العسكري قد استفاق من البنج واسترد وعيه. في السرير المقابل له، امرأة مستندة بظهرها على وسادتين ترتشف سائلا من كأس. نظرت صوبه ما أن سمعت أنينه، ابتسمت له ورفعت إبهامها في إشارة إلى أن وضعه جيد.
تأمل العسكري محيطه وتلك الجميلة، وتاه بين حقيقة ذكرياته وخيال هلوسته. تذكر كالحلم عيونا عسلية مؤطرة بالأسود ما فتئت تحوم في فضائه. لا يذكر أين رآهما لكن يعرفهما جيدا. هل تكون أضغاث أحلام؟ كلا. فصاحبتهما ليست حلما بل متجسدة حقيقة أمامه بجلال بهائها وروعة عيونها العسلية المؤطرة بالأسود.
وغاص المريض في دوامة ألمه وحمى أوجاعه وهو بين كرير وهسيس.
"هذه الدكتورة صفاء التي منحتك الحياة الليلة، وكيس الدم الموصول بذراعك من دمها"، هكذا قدم الطبيب المشرف صفاء للمريض.
شهقت روحُه لِمَا سمع. وشاهد في عينيها طيف أحلامه. أي قدر جعلها في طريقه الليلة؟ وأي قدر جاء به إلى هنا؟ ما أروع تخطيطك أيها القدر!
وأبحر في سفينة الأماني على غير هدى. كحل عينيه بالجمال فأبصرها نجما يضيء دمَه وشعوره. كأنما حُقِنَ وريدُه حُبَّها فأزهر بستانُ روحِه أمنيات مع إشراقة الفجر. وسرح في تأملاته الرقراقة في جو يتطاحن فيه السكون من حوله.
إلا أنه تعتريه لحظات مفاجئة من الألم تنتشله من أحلامه الدافئة فيعود للأنين.
تحركت الدكتورة من مكانها بعد أن فرغت قارورة المصل، واستلت الإبرة من شريانها، فهسّ: لا شك أنك ستغادرين. لا، لا تغادري، ابق بالقرب مني. دعيني أتلمس حلمي بقربك، أرسمه من سحر عينيك. أنت نور وضياء تتخللين عتمة أوجاعي. ستكونين شفائي وابتسامتي التي ضاعت مني.
قطع عليه هذا المسلسل المتماسك دخول الطبيب متبوعا بضابط يرتدي زيه العسكري وقد رَصَّعَتْ كَتِفَه كتَّافية عليها ثلاثة نجوم خماسية مذهبة، ويمشي مسبطرا كأنما يزن خطواته على قرع طنبور. ارتبك المريض وكأنما حاول الوقوف لتأدية التحية العسكرية، لكنه ثُبِّطَ بفعل الألم فاكتفى برفع يده اليمنى احتراما.
أي عز وشرف هو فيه! النقيب نفسه في زيارته؟ نفخ صدره على وهن غرورا وكبرياء. نعم هو ليس بالقليل، ويستحق هذه الزيارة. والمحير أن يأتي النقيب مع الفجر بعد ليلة صعبة للغاية في المطاردة وسط الجبال. تمنى من غبطته لو أنه أصيب منذ زمن لينال هذا الشرف، والأهم من ذلك ليلتقي بالدكتورة صفاء.
وتمادى في الهذيان سعادة وهناء وعشقا، وهو الذي تُعشش الغربة في حنايا روحه فتغرس الوحشة وتمنح الآهات حرى. فقليل من الاهتمام يكفي ونسمة من الحب تكفي.
يا أيها المنفي خلف جدار الصمت، عانق أحلامك بحرارة!
أجال النقيب ناظريه في أرجاء الغرفة الشاسعة، ثم ضاعف من سرعة خطواته وهو يتجه صوب الدكتورة صفاء، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة لم يشاهدها الضابط على محياه القاسي من قبل، وبسط للقاء يديه. نهضت صفاء من سريرها وأسرعت نحوه خطوتين تنشد دفء أحضانه. طبع على جبينها قبلة وضم فيها شوقه ولهفته وخوفه عليها. أما هي، فقد هدأت عاصفة روحها وسكن ضجيجها بعد أن عاد إليها زوجها بطل الجبال سالما.
استفاق الضابط من أحلامه في ثوان. قَبَرَ أمانيه وشد على قلبه الذبيح. تضاعف ألمه فرفع من أنينه.
◄ زهرة يبرم
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
6 مشاركة منتدى
في غرفة الإنعاش, رانيا كمال -مصر | 25 كانون الأول (ديسمبر) 2014 - 18:47 1
لك اسلوب جميل في الكتابةفالنص رائع يحمل الكثير من القيم التى تحاكى العمق الانسانى دمت مبدعه
1. في غرفة الإنعاش, 26 كانون الأول (ديسمبر) 2014, 20:54, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
لكلماتك وقع طيب في نفسي
شكرا لمرورك الكريم رانيا
كل عام وأنت بخير
في غرفة الإنعاش, المهندس محمد ابورياش | 26 كانون الأول (ديسمبر) 2014 - 13:56 2
كعادتها مبدعتنا الاستاذة الفنانة زهرة تتحفنا نحن قراءها ومتابعي إبداعاتها بلقطاتها الفنية الزاخرة والمائجة بشتى الأحاسيس والانفعالات الانسانية البشرية الحقيقية
فمشاعر خطيبة جياشة تنتظر خطيبها حامي حمى الوطن مفتخرة به مزهوة تطاول السماء تيها به
وهي تتخيلع سارحة هائمة في غرفة انتظار الأطباء
ومن مشاعر ضابط مستجد لم ير في المشفى سوى عينين نجلاوين عسليتين تاخذانه الى عواالم وتهويمات لذيذة صنعتها مخيلته العطشى لأنثى تبادله إحساسا بإحساس ومشاعر بمشاعر
ومن مشاعر النخوة والواجب الإنساني الذي يمليه عليها ضميرها الطبي الإنساني وما يرافق ذلك من وهن وألم
ثم تأتي لحظة القوة والحسم لكليهما الخطيبة المنظرة والضابط الهائم
فتكون للأولى قوة ونصرا وزهوا وهي ترى نظرات الإكبار والإعجاب في عيني خطيبها تقديرا تصنيعها بتبرعها بدمها النادر
وللثاني بحبس انفاسه وكتم مشاعره التي أزهرت ودملها في مهدها
1. في غرفة الإنعاش, 26 كانون الأول (ديسمبر) 2014, 21:02, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
أشكرك سيدي المهندس أبو رياش على القراءة المعمقة والثناء الجميل والمشجع. شكرا لحرفك الفصيح الأصيل وكل عام وأنت بخير.
في غرفة الإنعاش, نوزاد جعدان | 29 كانون الأول (ديسمبر) 2014 - 10:16 3
جميل صديقتي المبدعة
1. في غرفة الإنعاش, 29 كانون الأول (ديسمبر) 2014, 13:36, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
شكرا لجميل مرورك أستاذ نوزاد جعدان.
في غرفة الإنعاش, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 1 كانون الثاني (يناير) 2015 - 17:02 4
أ/زهرة تحياتي وكل عام وأنت بخيرقصة رومانسية,تذكرني بكلاسيكيات القصص الرومانسية يتألق فيها أسلوب السرد الممتع الجميل .دمت بخير.
1. في غرفة الإنعاش, 1 كانون الثاني (يناير) 2015, 23:16, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
أ/ هدى أبو غنيمة
عام جديد سعيد عليك أستاذتي فراشة عود الند
النقد هو بوصلة الكاتب التي تأخذ بيده وتوجهه وتساعده ليصل في النهاية إلى بر الإبداع. أشكرك من كل قلبي على مرورك الراقي وحرفك السامق، لك مني أجمل الأماني وأرق التحايا وكل عام وأنت بخير.
في غرفة الإنعاش, زهرة بوسكين الجزائر | 5 كانون الثاني (يناير) 2015 - 19:04 5
نص رائع بلغته القوية وتسلسل أحداثة يحمل جوانب عديدة من التشويق أتمنى لك المزيد من الإبداع استاذة زهرة
1. في غرفة الإنعاش, 9 كانون الثاني (يناير) 2015, 20:22, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
أحييك صديقتي زهرة بو سكين بحجم ما تركه تعليقك الجميل من أثر جميل في نفسي.. مع محبتي وودي..
في غرفة الإنعاش, أشواق مليباري | 8 كانون الثاني (يناير) 2015 - 12:26 6
العزيزة زهرة
قصة جميلة جدا
أحسنت الوصف واختيار العبارات المناسبة والمفردة الملفتة التي تعلق في الذهن
والنهاية رائعة ومدهشة فعلا
أحسنت زهرة
محبتي واحترامي
1. في غرفة الإنعاش, 9 كانون الثاني (يناير) 2015, 20:44, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
أسأل الله أن أكون دوما عند حسن ظن أصدقائي وكل الذين يقرؤون لي بانتظام، وهي من بين أهداف الكتابة.. شكرا لروعة حضورك أشواق العزيزة، محبتي..