هدى التومي - تونس
انزياح "الغريب" من خلال الممارسة النحتية لمارك بولياي
لم تفقد طروحات مارسال ديشامب نظارتها وما الجنوح نحو التنويع في صنوف وأشكال "الاستعادة" للمهمل والمستعمل من طرف عديد النحاتين المعاصرين إلا دليلا على لانهائية الرؤى من ناحية، وعلى الانزياح في الطروحات التشكيلية المرافقة من ناحية ثانية.
مارسال ديشامب وبطرحه لـ: "لافنتان"، انزاح عن الدأب الدارج في تاريخ الفنون التشكيلية، محققا بذلك "رؤية" اختراقية جذرية للفكر الإستيطيقي.
ففعل الاستعادة وما يختزله إنشائيا من انزياح عن حدث "الإخفاق" المرافق للممارسة التشكيلية التقليدية، هو إيذان بقلب المعادلة الإستيطيقية. فيمحي فعل الإخفاق قبالة الاستعادة، ويصبح طرح جيل دولوز: "الإخفاق حتمية إنشائية مرافقة للفعل التشكيلي" غير مجدٍ قبالة الاستعادة وما تحيل إليه من انزياح نحو "رؤى" تشكيلية مستحدثة.
إنّ المتأمل في صنوف الاستعادة في الممارسة النحتية المعاصرة، يلحظ تنويعا زاخرا في الاعتمادات التقنية، وكل اعتماد هو رؤية ذاتية قائمة على الانزياح عن الرؤى الدارجة في طرح الاستعادة. فكيف يؤسس فعل الاستعادة انزياحا تقنيا؟ وكيف تنبثق ميثة الغريب من صلب الممارسة النحتية القائمة على الاستعادة؟
لغة، الغريب مصدر من فعل غرب، يغرب، غرابة الكلام أي غمض وخفي، فكان غير مألوف، فهو غريب وجمعه غرباء، ومؤنثها غريبة وجمعها غرائب. والغريب من غَرُبَ عن وطنه غرابة وغُرْبة ًابتعد عنه فكان غير معروف أو مألوف. ومنه غَرُبَ الكلام غرابةً: غمض وخفي ".
والغريب اصطلاحا هو ما يحيد عن “المألوف والمعهود والمعقول والمتعارف عليه" سواء على مستوى التصور أو المنجز، فيتجلّى تباعا كظاهرة غير مألوفة، تخالف عادات التواصل وقواعد الحياة الاجتماعية وتحيد عن حقيقة اليومي. لذلك يتعارض الغريب مع المنطق السائد والدأب الدارج ويتحاشى قوانين العقل والمسلمات البديهية. إنّه في شكل من أشكال تمظهره : اللامنتظر واللامتوقع، إنه الانزياح في تجليه.
فالانزياح يحيل إلى المروق عن القواعد والقيم والمتعارف عليه ليؤسس لرؤى تتعدى المعهود والمتفق عليه. وليس من تناغم بين مفهومين بقدر تناغم الانزياح مع الغريب في الممارسة النحتية. فنزوع النحات الفرنسي، مارك بولياي (Marc Boulier)، نحو استعادة الخشب القديم وتوظيفه في مشهديات ذات بعد "قبلي طوطمي" هي في ذاتها إحالة على اللامعهود واللامتوقع. فتنزاح الممارسة النحتية إنشائيا من معالجة إشكالات النحت التقليدية كما الحجم والفضاء والتقنية، نحو غرائبية اللامتوقع من خلال شكل الخشب المستعاد.
منحوتات بولياي تفرض زاوية تمظهر تقابلية ناتجة عن الحبكة في تشكيل المنحوتة. فهي منحوتات ثلاثية الأبعاد، لكنها تفرض زاوية قراءة تقابلية، تتمظهر كألواح تسائل التشابه في الوحدة، وفي تكرارها إحالة على اللاتشابه في التشابه. ظل الظلال، يسائل طقوس الانزياح عن الدارج في النحت، وإحالة على اللامتوقع في صنو غرائبي ذو صبغة طقوسية. غرائبية اللامتوقع من خلال بساطة المواد المستعادة، وغرائبية من خلال القدرة الرهيبة على تشكيل المواد وإضفاء هالة طقوسية على تمظهرها ممّا يصدم المتلقي ويجعله في موضع المتسائل عن عمق الانزياح في المنجز النحتي.
غرابة في الانزياح، وغرابة في المنجز، وغرابة في المواد المستعادة، وغرابة في تحويلها وتشكيلها، وغرابة في مشهديتها وغرابة في الهالة الطقوسية التي تفرضها رغم بديهية المنجز. للانزياح طقوس من لعب غرائبي.
الشخوص في منحوتات بولياي زئبقية، تأخذ شكل المحمل المستعاد وتستكين إليه. إنه الحاضن ، فتنحته تأقلما. شكل الحاضن محمل دائري، مقلاة صدأة مستعادة، للون الصدأ فيها إحالة على ثبات الرؤية وديمومتها. ولتمظهرها إحالة على إنتحات الشخوص في الحاضن.
الحاضن في البيولوجيا هو الجسد أو الجسم الذي يحتضن الفيروسات ، فلا يتأثر بها ولكنه يمرر عدواها وفي تشكيلات بولياي الحاضن يحيل على تكاثر الشخوص في أي فضاء مستعاد يغري النحات. كما البكتيريا تتأقلم مع فضائها الحاضن. وتتخذ شكله، وفي الشكل مأوى وديمومة تمظهر.
زئبقية التأقلم تثير في الذاكرة شغف "أخطبوط" يتلون مع بقايا جرار خزفية لشراب الرومي المعتق، جرار في عرض البحر ملقاة، قد تكون لفظها بحار فينيقي يغازل نسيم الراحة على سواحل أرخبيل قرقنة منذ آلاف السنين، لكنه لم يكن غافلا على قيمة الجرار الملقاة في البحر، بقدر وعيه السليقي بميثولوجيا التكاثر للأخطبوط وحتمية الحاضن له.
كذا هوس الهيرمنوطيقا في تخيلات النحات بولياي، حين تلقى المقلاة وتمضي عليها سنين عجاف في عرض المدى المفتوح على عوامل الطقس ، فتصدا وتتشكل، فتثمر فضاء حاضنا، فيستعيدها. وتنتحت الشخوص من خلاله، فتستحيل عبقا برائحة الصدأ. للاستعادة طقوس من عبق المهمل.
الفضاء الحاضن هوس للنحات بولياي، هو خاضع لمبدأ الاستعادة ، وفي الاستعادة مع بولياي تفعيل لمبدا الدرس الأول في الرسم الخطي. أن تعيد العين الحجم الملقى للشكل الهندسي البسيط ، ويفعّل في الذاكرة وبالذاكرة، فتتحوّل :" se métamorphose" من شكل مهمل إلى حاضن ذي دلالات مشهدية.
قطع خشبية مقتطعة من أشجار، لعوامل بيئية، قد تكون تعرضت لإعصار فاقتطعت من مهدها، أو لصاعقة فصلتها عن جذرها، أو لفعل توارى في ذاكرة الزمن واندثر، فيستحيل الغصن إلى ممكن في رؤية بوليا"ي الاستعادية، ويتشكّل الغصن كما هو حاضنا لشخوصه، فيرتقي توازيا من العدم والمهمل ، إلى التمظهر التشكيلي في طلاقة إحالاته الدلالية. قد يستفسض الغصن دلالة، فيتمظهر كسفينة ، أو هي في هيرمنوطيقا الرؤية للنحات، امتداد لسفر التكوين في الديانة المسيحية، تواصل مع الزمن الأول من خلال عناصر القدم في ثنائية الحاضن والشخوص، شخوص تنأى عن التواصل المباشر، وتنأى عن الخروج من رتابة الجمود التقابلي نحو تعبيرية الجسد. إنها تختصر الإنساني في هوسه السليقي للحاضن.
حاضن قد يكون الأم، أو المرأة في المطلق، أو هي أمنا الطبيعة في الذاكرة الجماعية.
ذاكرة ترتحل الأزمنة مع تشكيلات بولياي النحتية وتنزاح عن المعهود لتحيل إلى الممكن من المهمل في بعد يحيل على الغريب في طقوس بدائية.
لا يفتأ الانزياح في اعتماد المواد يصدم المتلقي من خلال غرابة التمكّن من تطويع البديهي، الانزياح عن الدأب الدارج في اعتماد وتوظيف تقنيات النحت من خلال مقاربة نظرية تقوم على خرق آليات الاعتماد التقني والأفعال الإجرائية التي تنشغل بها وفي خضمها.
مثل الانزياح كمثل مدار يفتح مجال التساؤل الإجرائي العميق حول مفهوم المادة والتقنية في مجال النحت وسبل استثمارهما تشكيليا، وأبعادهما الدلالية في العملية الإبداعية. ومثل الغريب كونه تدشين لحقول إنشائية يترادف في خضمها التفكير في المعنى من خلال العمل المادي على الشكل.
غرابة في اختيار المواد، وغرابة في طرق معالجتها وغرابة في توظيفها وغرابة في عرضها، مما يحيل على أطر انشغال للمرئي يحيد عن المعهود ويبشر بحدث الانزياح.
= = = = =
المراجع
أمهز محمود، الفن التشكيلي المعاصر، الجامعة اللبنانية، 1981.
البهنسي عفيف ،النقد الفني وقراءة الصورة، دار الكتاب العربي، القاهرة/دمشق، 1997.
البهنسي عفيف، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن، دار الكتاب العربي، 1997.
النجار سلوى ،جمالية العلاقات النحوية في النص الفني، مطبعة التسفيّر الفني، صفاقس، 2006.
كريّم عمر، رحلة وولادة تجربة تطبيقية من خلال أعمال شخصية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علوم وتقنيات الفن، 1998.
ميرلوبونتي موريس، العين والعقل، ترجمة الدكتور الحبيب الشاروني، 2001.
محمد محسن الزراعي، الإستيتيقا والفن على ضوء مباحث فينومنولوجية، دار محمد علي الحامي، 2003.
◄ هدى التومي
▼ موضوعاتي