زهرة يبرم - الجزائر
همس البحر
سكيكدة، تلك المدينة الهادئة الصاخبة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، والتي تسخو بالعطاء بلا حد. تهب الجمال لمن يتذوقه، وتحنو على زائريها. ترتفع شواطئها في سماء الجمال شامخة حين تعانق خضرة الجبل وزرقة السماء وروعة ما وهبها الخالق من بديع الصور.
دعاني هذا المساء شاطئ "ميرامار" ، أحد شواطئ سكيكدة. وحين يدعوك شاطئ مثله فلا يمكن أن تتأخر أو تلهيك انشغالات عارضة أو تتحجج بأعذار واهية. يعرف هذا المكان أن الكاتبة في أعماقي أشد عشقا له مني، فلا تضيع فرصة لمثل هذا اللقاء دون أن تؤرخه بكلمات تبعثرها لآلئ تحت قدميه راجية منه مزيدا من الجمال والرضا.
لبيت دعوته وشعور بالحنين والحميمية يملؤني ويغمر كياني. لم يكن البحر إلا صديقا صدوقا في زمن عز فيه الأصدقاء. وقفت أمامه واجمة أصوخ إلى وشوشته وهمسه. تكلم الصامت فأنصتت إليه بكل جوارحي. كأنه موجد للكلام، عارف بالغرام أو يلعب بالقلوب.
وهرعت إلى حيث سجل المد على الرمال الذهبية وفائي وإخلاصي. هاجمني الحنين القاتل إليه، وبدا حبيبا قد استقر حبه في ذلك المهوى العميق من الروح. أشتاق لهمسه ودفئه ورقة ما لديه من أحاسيس. فتح أمامي كل منافذ الفرح الأزرق، ليس كمثله أحد في عالم الطبيعة.
صافحني ميرامار بمده مغمورا بالفرح، طروبا والها متيما وهو يمعن فيّ النظر. واقترب مني واقتربت ليطوقني بموجه ويلثم وجهي بمائه فيفيض عطرا على جسدي. أشم عبق ملحه المنبعث من كل المسامات، وأطرز بالشوق الطويل صفحة مائه فتنتعش روحي بشذى عطره ويطغى حضوره في القلب ويمتد كأحلى ما تكون بداية بلا نهاية. لم أر كقلبه اتساعا للحب والحياة.
مساء الخير بحري! مكانك في القلب هذا المساء وكل مساء. أتيتك لأتلو عليك ما نزل بي من تحديث. وحدك تسمعني وتفهمني. بصحبتك أستطيع الضحك إذا فرحت والبكاء إذا حزنت وانجرحت. أمامك أبحر بفكري وأكتب بقلمي. مدك في القلب مد، وحتى جزرك في الهوى يا بحر مد.
شعرت به يشدني من يدي وينحني بي ناحية ولهانا بلقائي، فقد تشكل لي رجلا في ذلك المساء. وسجل الزمان والمكان لقاء شاعريا استثنائيا بين عاشقين. غمرتني لحظة صفاء حد انهمار الدمع، فزاده بكائي لوعة، فرشني برذاذ موجه فاختلطت دموعي وأدمعه وتساقطت كينابيع للفرح. توقعت يا بحر أن تزيح عني همومي، لكني تعجبت أنك غرقت في دموع عيوني!
تفاجأت به يستلهم كلماته من أغنية لفيروز: "هل رأيت اتساعي؟ كل هذا قلبي. ملء قلبي أحبك".
فأجبته: "وهل رأيت السماء التي تغطيك؟ قلبي بشساعتها، وهو مثل السماء يحتويك".
ويهمس: وَلًى الصيف وجاء خريف عمري وقد كنت بانتظارك. أتيتني حين هجرني الجميع، وكان كل خوفي وحزني ألا تأتين.
وأهمس: "كيف لا آتيك بحري وأنت ساقي أزهار الروح وحاميها من اليباس؟ أنت من الروح جزء ومن القلب نبض. ليس لك كتف لأريح رأسي عليها لذا سأبكي جاثية".
ويهمس: "يا زهرة وجودي! يا نسيم الورد أنت عند هبوب الريح! ويا شعاع الشمس إذا انحسر الغيم وانقطع المطر! يا صديقة الخريف أنت، ويا ضوء القمر في الليالي المعتمة!"
وأهمس: "ثوبي اليوم أبيض بلون موجك، بياض تزهو به روحي. لكن الأبيض كالزبد هو اللون الخادع الذي لا وجود له في عالم الألوان. فهناك زرقة السماء من فوقك، ولون وهج الشمس حواليك، وخضرة الجبل على ضفافك. وهناك لون الغمام وفضة القمر، ولون عيونك التي تدحرجت إلى قلبي لأعرف أنني بعد كل سنين العمر الراكضة بي مثل الجواد الجامح، متيمة بك".
ونستمر. أسأله عن الماضي السعيد الذي ما زال يعشش في الأحشاء، ويسألني عما فعلت بي الأيام. أذكره بالحياة الحلم، ويعتب على الزمن السارق الذي أخذني منه حتى لم أعد أنا. ويشد على القلب الجريح.
أي قدر هذا الذي جمعني بك هذا المساء يا بحر؟
"البحر والجمل والرجل والزمان ما لهم أمان"، هكذا كانت تقول جدتي. أقدري إذا أن أعشق من بين عديمي الأمان بحرا؟ لا. لا يمكن أن تكون خؤونا وأنت الهادئ مذ عرفتك.
ويتدفق الحنين ملء مسامات الروح. ويجذبني موجه نحو عمق القلب. ينحسر الماء فأسير على دربه أتبع خطاه. أدنو من القلب خطوة، خطوتين، ثلاث خطوات. أقترب وأقترب على استحياء ووجل. أتأمله بكل الحواس وهو في أناقة رجل وسيم.
فجأة، مد موجَه بجنون العاشق فوقي وتحت أقدامي وهو لا يكف عن مناجاتي بسحر الكلام. ثم بحذق كبير حسر موجه وضمني إلى قلبه بعنف. فشربت من ملحه الأجاج حتى ظننت أنني على مشارف الموت. لكن ما لبث أن دفعني بقوة على الشاطئ، فوجدت نفسي أتشبث بالرمل. حسر موجه وابتعد مقهقها صاخبا معربدا ساخرا من ضعفي وانخداعي وقلة حيلتي.
وقفت ممسكة بحفنتي رمل أؤكد بهما نجاتي، والتفتت إليه صائحة في وجهه: "غدار! صدق قول جدتي فيك وخاب ظني".
وغادرته كما أتيته يائسة بائسة، وحيدة كقبري، كل ما بداخله يحتضر.
◄ زهرة يبرم
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
8 مشاركة منتدى
همس البحر, محمد علي حيدر ـ المغرب | 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 10:05 1
تألقت لغة النص (وخاصة مقدمته) فكانت بحرا موازيا للبحر الذي عشقتِه حد التماهي، فأبحرتِ أمامه بفكرك، وحدثته حديث الروح، وبُحت له بما يخالج الصدر، قبل أن تكتشفي غدره وخيانته، فكان كما قالت الجدة أحد أربعة ما لهم أمان: "البحر والجمل والرجل والزمان ما لهم أمان"، وكان قدرك، كما قلت، أن تعشقي من بين عديمي الأمان بحرا، وتلك هي المفارقة التي تستدعي مزيدا من التأمل لاكتشاف خفايا الروح والنص معا... سلم قلمك.
1. همس البحر, 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 14:17, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
أرحب دوما بحضور الدكتور محمد علي حيدر، النابض بالحيوية والصدق، معلقا على النصوص في عود الند. فقراءته المتأنية تخدم الأدب وتساهم في ترقية الفعل القرائي والنقدي داخل المجلة. وقد شرفني ما تفضلت به أستاذي الفاضل من تعقيب على نصي، فلك كل الشكر والإمتنان.
همس البحر, محمد السعودي | 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 19:56 2
نص جميل..يحتفي بلغة شعربة...عﻻقة كتب عنها كثر..
إﻻ أن النص متفرد في عوالم لغته.
1. همس البحر, 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 14:24, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
يحق لي أن أسعد بمرورك دكتور محمد السعودي وبهذا التعليق وما به من إطراء جميل جاء من كبير.. خالص الشكر والتحية.
همس البحر, مريم -القدس | 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 12:07 3
صديقتي زهرة يبرم
لو كان البحر رجلآ كما تخيلته ووصفته لبادلته العناق وهمست
في أذنه
سأطعنك قبل أن تغرقني
نص جميل استمتعت بقرائته
تحياتي
1. همس البحر, 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 14:49, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
مريم القدس، صديقتي الوفية، ومن طبع المرأة الوفاء لا الغدر والطعن في الظهر. أنا يا صديقتي أملك قلبا ضعيفا لا يتقن أيًا من فنون القتل، لا الطعن في الظهر ولا الإغراق ولا حتى القتل الرحيم أو حتى الدوس على حشرة بحذائي.
شكرا على خفة الروح وهذا الخيال المجنح الخطير.
همس البحر, أشواق مليباري | 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 12:08 4
العزيزة زهرة
البحر بجماله وسحره وعنفوانه وغدره.
أحسست بنبضك داخلي وأنا أقرأ وتذكرت صور تسنيم للشاطئ على فيسبوك وصور زينب لبحر غزة.
هو البحر سواء كان المتوسط أو الأحمر أوحتى الخليج..يبقى ملاذا للهاربين إلى لحظات الصفاء القليلة.
سلم قلمك زهرتنا
1. همس البحر, 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 15:20, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
هكذا هو الإنسان، أشواق، ألوف بطبعه،
قد يألف الأماكن إلى حد العشق أحيانا.
أشكر مرورك النابض بالحيوية والصدق عزيزتي،
أحضن عودتك وحمدا لله على السلامة..
همس البحر, عادل جوده | 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 - 12:52 5
"هَمْسُ الْبَحْرِ" نَصٌّ أَدَبِيٌّ بَاذِخُ الصُّوَرِ وَعَابِقُ الْمَعَانِي، وَيَسْرِدُ قَضِيَّةً اجْتِمَاعِيَّةً مُؤْلِمَةً، وَمُؤْسِفَةً، وَلَمْ تَزَلْ قَائِمَةْ.
أُثَمِّنُ عَالِياً الْخُلَاصَةَ الْجَلِيَّةَ الَّتِي حَمَلَتْهَا خَاتِمَةُ النَّصّْ.
أُحَيِّيكِ أُسْتَاذَةُ زُهْرَةْ؛
أُحَيِّيكِ بِحَجْمِ مَا امْتَازَ بِهِ النَّصُّ مِنْ إِتْقَانْ؛
فَقَلِيلاً، بَلْ نَادِراً، مَا يصَادِفُنَا نَصٌّ بِهَذَا الْعُمْقْ!
نَصٌّ؛ نَحْتَارُ فِي وَصْفِ مُعْطَيَاتِهِ، وَفِي قِيَاسِ أَبْعَادِهِ، وَفِي جَمْعِ مَكْنُونِهْ!
نَصٌّ يَأْخُذُنَا إِلَى جَمَالٍ أَدَبِيٍّ؛ َتَهْدَأُ بِهِ الْجَوَارِحُ، وَتَهْنَأُ لَهُ النَّفْسُ، وَيَطِيبُ مَعَهُ الْاسْتِرْخَاءْ!
1. همس البحر, 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 14:07, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
كم أني حظيظة وقد علق على نصي كاتب وشاعر بقامة الدكتور عادل جودة، صاحب حرف فصيح وأصيل. أشكرك سيدي على القراءة المعمقة وسبر الأغوار، وعلى الثناء الجميل والمشجع.
أحييك وأنتقي لك من بين عبارات الشكرأرقاها.
همس البحر, ايناس ثابت اليمن | 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 - 17:12 6
أحرفكِ جميلة.
بالتوفيق زهرة.
1. همس البحر, 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 14:13, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
مرورك الأجمل والأروع عزيزتي إيناس ثابت، وهو يعني لي الكثير..
همس البحر, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 - 17:38 7
أ/زهرة
تحيةطيبة نص جميل توازى فيه إيقاع اللغة بتقلبات البحر ولعلك كنت تواكبين جيشان مشاعرك وتدفق خواطرك .بالتوفيق دوما
1. همس البحر, 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 08:04, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
أسعد الله يومك بالخير والسعادة والبركات أستاذتي الغالية هدى أبو غنيمة، كل الشكر على تشريفك صفحتي، وكل الشكر على الحضور المشجع والمضيء..
همس البحر, الأديبة زهرة بوسكين الجزائر | 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 - 19:20 8
نص رائع يحاكي علاقة المبدع بالمكان-المدينة وبالبحر ملهم الشعراء والأدباء، وميزت النص لغة راقية سلسة تحمل العديد من الصور الجمالية الموغلة في العمق الانساني
1. همس البحر, 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 14:38, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
مواطنتي الأديبة والإعلامية زَهْرَةْ بوسكين
تشريفك وشهادتك الكريمة يا صديقتي قد خنقت بفمي كل كلمات الشكر والعرفان.. ولا يفوتني أن أشكرك أيضا على توجيك الدعوة لي لحضور برنامجك الإذاعي " مرافئ ثقافية".. تحياتي لك زهرة.. نلتقي..