نهى صقر - مصر
همسات الكنار الحزين
وهل تتلاقى الأرواح عبر الأزمنة؟ هل يمكن أن تتلاقى أرواح يفصلها الزمان والمكان والإنسان ودوران النجوم في المدارات؟ رسائل تغدو وتروح في الفضاء صداها حفيف الشجر في نيسان ولؤلؤات المطر المتساقط في كانون.
تطلين علي الليلة مع همسات الكنار الحزين؛ تمسكين بيديك الناعمتين شمعات الليالي الآفلات؛ لم يبق منها إلا القليل إيذانا بالرحيل مع سدول الستار على الفصل الأخير.
الليلة تأتيني مختلفة. يأسرك الصمت، وتتحدث العينان. كان وداعا قاسيا. أنا من اعتدت على زيارتك المميزة، وطلتك البريئة التي يسبقها صوتك الناعم الدافئ الرخيم، الذي يشبه صوتها حين كانت تقرأ مقدمة الروايات في بداية الأفلام ونهايتها.
وداعك الليلة حمل في طياته الكثير من الرسائل، وكأنها رسالة جديدة بقلمك وقلبك وإحساسك. ولكنها رسالة من قلب زهر البيلسان مع همسات الكنار الحزين ورسالة من وراء الحجب.
كنت أندهش عند قراءتي للرسائل بينكما، وكيف جمعت عشرون سنة بين روحيكما دون تلاق. تلك الرسائل التي بنى عليها الكثيرون أفكارهم وكتاباتهم وأسموها الحب السماوي. لن اسأل، فدوما أقول إن مكنون الإنسان لا يعلمه إلا خالقه؛ وهكذا البشر دائما لهم مترجماتهم للأمور، وأمنياتهم لمن يحبون، ولكن قد يكون وقد لا يكون.
تصعقني تلك الكلمات: "وهل سيأتي من ينصفني؟" ولا أدري عذراء الصالون هل أتى أم لم يأت؟
وفي الفصل الأخير أعرف ما لا يعرفه الكثيرون. تقولين:
"عزيزي جوزيف: منذ مدة طويلة لم أعد أكتب. وكلما حاولت ذلك شعرت بشيء غريب يجمد حركة يدي ووثبة الفكر لدي. إني أتعذب شديد العذاب يا جوزيف، ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة، وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه فيّ وحولي.
أني لم أتألم أبداً في حياتي كما أتألم اليوم، ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله. وددت لو علمت السبب على الأقل. ولكنني لم أسأل أحداً إلا وكان جوابه : لا شيء، إنه وهم شعري تمكن مني.
لا، لا، لا، يا جوزيف. إن هناك أمراً يمزق أحشائي ويميتني في كل يوم، بل في كل دقيقة. لقد تراكمت عليّ المصائب في السنوات الأخيرة وانقضَّت عليَّ وحدتي الرهيبة، التي هي معنوية أكثر منها جسدية، فجعلتني أتساءل كيف يمكن عقلي أن يقاوم عذاباً كهذا. وكان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية، فكنت أعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة لعلي أنسي فراغ مسكني، أنسي غصة نفسي، بل أنسي كل ذاتي.
إنه ليدهشني حقاً كيف أني استطعت أن أكتب هذه الرقيمة. ولعل الفضل في هذا يعود جزئياً إلى اللفائف التي أدخنها ليل نهار: أنا التي لا عهد لي بذلك، أدخلتها لتضعف قلبي. هذا القلب السليم المتين الذي لا يقاوم واسلم لابنة عمك ماري"[1].
أتساءل عزيزتي في دهشة: هل كانت تلك القوة الخفية انعكاسا لوجودهم داخل كيان هش سقط مع الرحيل؟ هل كان أمانا مستمدا منهم، فلما أفلت شمسهم هوى الجسد وهوت الروح؟ هل يستمد الإنسان وجوده بوجودهم ويأتي رحيله برحيلهم؟
لا، حبيبتي. الأمان الحقيقي لا يستمد الأمان بداخلك، فإن لم تبحثي عنه ضاع في طيات الأحزان وشرذمات الحكايات والسطور.
هكذا كانت مي بين خيالات الكتب وقدسيات الأشعار وبراءة الكلم وتمتمات المدينة الفاضلة، حتى صدمها الواقع بصخوره الصماء ووجوه سكانه المنحوتة على ضفاف الحياة. كانت هي بين الخيال والواقعية. إنها الحياة بين حق وباطل؛ بين حب وكره؛ بين رحمة وقسوة؛ بين حرب وسلام.
ويبقي الإنسان بنفسه لا بوجود غيره، وينتهي بانتهائه لا بانتهاء غيره. أمانه مزروع بداخله ويبقي عمله بفنائه. لا تتوقع من الناس المزيد؛ وافعل من أجل الله لا من أجل التقدير. كن أنت. أنت فقط. وارسم الحب للجميع دون انتظار المقابل.
وكان لى معها حكاية: إنها مي زيادة.
= = = = =
[1] من كتاب "مي زيادة: أسطورة الحب والنبوغ" لنوال مصطفى.
http://www.goodreads.com/book/show/6096866