زهرة يبرم - الجزائر
يتيم الحي
ها أنا اليوم أيضا واقفة كعادتي أمام نافذة مطبخي أنتظره على الغداء، لكن انتظاري كان يائسا، إذ لم يأت آدم.
لقد اعتاد الصبي آدم، يتيم الحي، أن يتناول الغداء مع أطفالي كل يوم، لكنه اختفى فجأة منذ عدة أيام وسبب لي القلق والتوتر. هل يمكن أن يكون مكروه قد أصابه؟ هل أبعد عن الحي؟ ألا يكون قد أوذي؟
أسئلة عابثة اجتاحت رأسي وأرقتني، وانهمر الهذيان على نفسي. صرت أحصي الأيام وفق تقويم القلق. لا الانتظار يضع أوزاره ولا الاطمئنان يحل ضيفا على قلبي. وأرجع إلى نفسي أسألها عن سر تعلقها بهذا اليتيم إلى هذا الحد؟
رأيته أول مرة واقفا هناك خلف زجاج نافذة مطبخي، يرقب أطفالي وهم حول طاولة الغداء. كان طفلا غريبا داكن السمرة، أشعث أغبر، يمص إصبع إبهامه. لم ينتبه له أحد لكني لمحته وتوقعت أن يكون جائعا. لعله كان ينتظر بلهفة أن يلتقطه نظري ويُمني النفس بأن ينال حظا من طعام؟
ملصت يدي مما بينهما من شغل وأسرعت لفتح النافذة مبتسمة له. أردت أن يرى بشاشة على وجهي. انفرجت أساريره لمرآي عن بسمة مكتومة، وطأطأ رأسه خجلا أو رهبة. أومأت له برأسي صوب باب البيت أن تعال، فمشى نحوه بخطى مترددة، وأسرعت إليه.
دخل بيتي مجللا بالخجل والتردد. أشرت إليه أن يتبعني إلى المطبخ. وجدت أطفالي مشرئبي الأعناق يدفعهم الفضول لمعرفة زائر الفجأة. نظروا إليه بعيون مشرعة وأفواه فاغرة وهم يجيلون أعينهم في بعضهم البعض، يغالبون ابتساماتهم ولسان حالهم يقول: الطفل الأسود المتشرد في بيتنا؟ هذا أمر عجاب!
سمعت عن ظهور هذا الطفل الغريب في حينا فجأة. لا أحد يعرف من يكون ولا من أين أتى. كثرت الإشاعات حوله وتقافزت من لسان إلى آخر. ما أن تحط الإشاعة عند أحد حتى تتحور متحملة عبء جزئيات وتفاصيل أخرى من نسج الخيال. ثم تطير بجناحين لتحط على لسان آخر، يغزلها بدوره كما يغزل الحرير ويلقي بها لتحوم من جديد تبحث عن قدر آخر يبدلها ويرسلها إلى الريح لتدخل الآذان بصيغة مختلفة وأكثر إثارة.
منهم من يقول إنه تربى في الكهوف على التخوم، ولما كبر تمرد على ظروف عيشه ونزل إلى المدينة. ومنهم من يزعم أنه هرب من ميتم مدينة أخرى وساقته الأقدار إلى حينا. وهناك من يروي قصة هجوم إرهابي ليلي على "الدوار"(1) الذي جاء منه، حيث أُبيدت أسرته بكاملها، إلا هو، المتبقي الوحيد منها. وغيرها من الروايات التي أحيكت حوله.
لكن لون بشرته الأسود يفند كل المزاعم حوله، فهو ليس من سكان المنطقة المعروفين ببياض بشرتهم. قرب رواية إلى الحقيقة أنه طفل مالي لاجئ يتيم رمت به الأقدار إلى حينا.
لم يرحب سكان الحي بوجوده بينهم. كانوا ينتهرونه بغيظ وحنق، ولا يريدونه أن يلعب مع صغارهم. كان أمرهم أعجب من العجب، فهم يتطيرون منه رغم طفولته البريئة. يزعمون أنه يحمل أمراض الفقر، ويخافون أن ينقل العدوى لأطفالهم. وجد المسكين نفسه تائها وسط غابة من البشر قست قلوبهم فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة.
كنت أتمنى رؤيته لكثرة ما حدثني صغاري عنه، لكن القدر ساقه إلي دون عناء مني. وضعت له طعاما وبقيت أراقبه خفية. كان يأكل بنهم ، فتحرك قلبي نحوه بالرحمة و الشفقة.
ربما لامس الطفل مني حنوا وأمانا، فدأبَ منذ ذلك اليوم دأبَ آدم على المجيء إلى بيتي بانتظام والوقوف أمام نافذة مطبخي في موعد الغداء. وألفت مجيئه. كنت أتعمد وضع الوافر من الطعام له. فربما لا يسعفه حظه في نيل وجبة عشاء، فيعتمد على الغداء كوجبة واحدة في اليوم.
كان آدم يحس أن صغاري لا يرومونه وإن لم يُبدوا له ذلك علنا. هو يفهم ذلك بمجرد أنهم لا يبتسمون له ولا يتحدثون معه. وهذا جعله يوجس في نفسه شكا أنهم لا يرحبون بوجوده. أما أنا، فقد بدأ يتيم الحي يتشبث بتلابيب قلبي كل يوم أكثر، وصرت أعطف عليه كثيرا، فهو مجرد طفل يتيم بمتوسط أعمار أطفالي، يفتقد لكل معاني هذه المشاعر. فماذا يُنقص من مشاعري لو منحته قليلا أو كثيرا منها؟
لو كان الأمر بيدي كله لضممته إلى أسرتي وتبنيته كولد لي. فما يضير لو زاد عدد أفراد أسرتي واحدا؟ طعام الفرد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة. وما تأكله القمامة كل يوم من بقايا الطعام يسد جوع أكثر من شخص. وما نتخلص منه من ثياب قديمة هي في عين الفقير المعدم جديدة.
بعد أن ألف الطفل الأسمر المجيء إلي، واعتدت انتظاره، اختفى على حين غرة. ذاب كفص ملح وتركني في نار الحيرة. ضاع طفلي وأصبح أملي في عودته يفنى ويضمحل كل يوم كالفيء.
يوم، يومان، ثلاثة، أسبوع، أسبوعان، شهر. وبدأ طيف آدم يبتعد ويتلاشى حتى صار ذكرى.
تفاجأت يوما بوجوده واقفا في مكانه المعتاد خلف نافذة مطبخي المفتوحة، والبسمة تزين وجهه الأسمر. ما أن لمحته حتى طرت إليه وصوتي يعلو في البيت، ينادي أطفالي: لقد عاد آدم، عاد أخوكم.
هرع الأولاد إليه جميعهم ، فتوقفت أمام باب المنزل أرقب المشهد. سبحان الله! "إن تخالطونهم فإخوانكم"(2). لقد صدق فيهم قول الله. حلت الألفة والمودة بين صغاري وهذا اليتيم الذي كان من قبل مُنكرا لهم. إذ سارعوا إليه يهللون مستبشرين بعودته الميمونة. يحضنونه ويداعبونه.
سوف يهنأ له المقام بيننا، ولن أدعه من اليوم يغادر إلى أي مكان حتى يبلغ أشده. سأتقرب به إلى الله زلفى. لقد عاد آدم منطلق المحيا باسما على عكس ما كان عليه. كأنما طرأ على حياته طارئ غيرها نحو الأحسن، أو يحمل خبرا سعيدا.
بادرته بالسؤال عن أحواله عاتبة عليه برفق غيابه المباغت دون إخباري، وما سببه لي من قلق عليه. أخبرني أن عما له جاء من مالي يبحث عنه، وضمه للعيش مع أسرته. لقد فاجأته الحياة بأسرة، وهذا أجمل ما يمكن أن يحدث ليتيم لعبت به صروف الدهر. استقر بهم المقام في الأرياف للعمل في الأرض.
صار ليتيم الحي الأسمر بيتا وعائلة، وأصبح له شغل. أغناه الله تعالى عنا وعن إحساننا، وبقيت ذكراه في نفوسنا، فآلاف الوجوه يلتقي بها الإنسان، تتلاشى ولا تخلف وراءها شيئا، لكن وجها معينا قد يرسخ في النفس ولا يغادرها.
= = = = =
(1) الدوار: تجمع سكني ريفي يشمل عادة عائلة كبيرة واحدة.
(2) سورة البقرة؛ الآية 220: [فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ].
◄ زهرة يبرم
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ