غمكين مراد - سورية
قراءة في جنوب غرب طروادة
قراءة في رواية "جنوب غرب طروادة؛ جنوب شرق قرطاجة" لإبراهيم الكوني
الوطن حديقة مسورة بالجهات وما يليها، كما هي الروح شعاع في قفص الجسد، يتلاقى الوطن بالروح في انبعاثاتِ أنفاسٍ وأنغام وأضواء لتدوير الحالة وتسيّيرها إن أمكن خارج انغلاق الدائرة إلى أمام أو حتى إلى الخلف دون الركون إلى الحيِّز المرسوم ثباتاً.
هكذا توحي رواية إبراهيم الكوني "جنوب غرب طروادة جنوب شرق قرطاجة" حيث العنوان سياج الوطن ليبيا والمضمون مرحلة من تاريخها المُحمَّل بما تحملهُ هذه الأيام من نفس السيناريو في شقيه السياسي والمعيشي ، تتراءى في مرحلة طغيان كان قائماً على التهريج متداخلةً مع مرحلة سياسية متطفلةٍ لزرع جرثومة غايتها، متجسدة في الغرب الأطلسي،
وكلّاهما الطغيان والغرب أفضل من يتقن مفهوم الخراب بالحرب، الأول في الحفاظ على سلطته ، والثاني فيما سيكتسبه من مال. ويغيب عنهما مفهوم التدنيس للشرف كما منلوس وأجاممنون في حربهما على طروادة : "أصلح إنسان لممارسة مهنة الحرب هو مُريد السلطة أولاً، ثم مُريد المال ثانياً، ثم مُريد المرأة ثالثاً" (ص 19).
يعود إبراهيم الكوني إلى القرن التاسع عشر من تاريخ ليبيا ليحاكي الحاضر بخيال واسع وإسقاطات هائمة على أوجه السياسة العالمية في تبرير تصرفاتها وعلى تاج الطاغي في إيمانه بأبديته منطلقاً من غرب يعتبر نفسه مُنقذا ومن شرقٍّ يرزح تحت إبط مستبدٍّ هو صنيعة الغرب.
كلاهما، العرش والسياسة، منفذان للبدء في الخراب تحت راية الخلاص وما: "العرشُ إلا مستنقع من عسل" (ص 426 )؛ و"السياسة هو المنفعة!" (ص 432 ).
القرمانلي المتمسكِ بالعرش بعد السطو عليه والنفثِّ في نفوس شعبه بسموم الخوف والظلم والموت وامتلاكه ما لا يمكن أن يُمتلك ، الإنسان، من حيث لا يدري يزرع بشكل غير مباشر في نفوسهم أيضاً الاستنكار: " نستنكر الطغيان... لأنه، ببساطة شديدة، شرّ!" (ص 279).
ولكن عدم امتلاك الشعب لأدوات الخلاص، يدفعهُ إلى اللجوء للاستنجاد بأيٍّ كانْ ليهفو إلى الخلاص، ويكون المنقذ جاهزاً في حالة تأهب قصوى مسبقاً وذلك بتجهيز منافس من نفس ملّة الطغيان يطمع بالعرش: "حسب وصية (بنيامين فرانكلين) القائلة بوجوب البحث عن خصم مُطالب بالعرش إذا شئنا ابتزاز طغاة العروش" (ص 131).
ويصبح الضائع الوحيد بين متاهتي الطاغي والغرب الأطلسي، هو الشعب الحالم بالخروج من قيد الأنفاس ومن عتمة الظلّمة حتى وإن كان الطريق جحيماً: "الظلمة هي أقل ما ينبغي احتماله لمن قرر عبور الجحيم" (ص 277)، وحيث: "لا وجود لحريّة إلا في الموت، ولا وجود لحياةٍ حقيقية إلا في الحريّة، فيا لها من أحجية!" (ص 355).
سؤال مؤلم لمن لا يملك مفاتيح الخلاص في اليد، فقط يكمن خلاصه فيما تحمله القلوب من الشجاعة حيث هم واقفون بين نارَين، الصبرُ في احتمالهما هو صورة الخلاص في شعلة ضوءهما ، لكنهم واقفون لكي يبدؤوا بما يحملون:
"نشوة الشجاعة التي عُرِّف دوماً أنها تفوق نشوة النصر لذّة، لأن الحياة الحقيقية ليست سوى لحظة حريّة، ولحظة الحريّة ما هي إلا لحظةُ شجاعة!" (ص 435-436).
الكوني يُعيد الحاضر عبر آلة زمن خياله إلى الوراء، لكن بحيثيات الحياة المُعاشة في القرن الواحد والعشرون، يُخالج نفوس الماضي في صداها الآن في جميع الاتجاهات وبجميع الألوان والأشكال، يُداخل بين نفوس الشعب ونفس الغرب ونفس الطاغية وينتصر للإنسان بأخلاقياته البعيدة عن الاعتداء والحقد وما يأتيه من الباطل، حتى تصبح البلايا، وأشرسها الحرب جزءاً من العادة الحياتية، ينغمس فيها الإنسان إن طالت كشأنٍّ يومي:
"ويبدو أن الناس يألفون البلايا! بما في ذلك الحروب (إذا كتب لها أن تُعمِّر طويلاً) فيستهترون لا إعلاءً لشأن مرض كاللامبالاة، ولكن استجابة لهاجسٍّ خفي هو تجاهل الموت" (ص 204).
ويبقى ذاك الإنسان المُجسِّد لإنسانيته والمؤمن بنبالة كينونته، شغوفاً بما يحمله من إيمانٍ بالخلاص، وذلك بالحفاظ على ميزته التي تسمّو على كل المكتسبات الدنيوية المُجوفةِ بجرمٍ ما: "ذرة واحدة من نُبل كفيلة بأن تطيح بعرش أعظم صاحب عرش" (ص 156).
ومن تبعات هذا الصراع الدائر بين حريّة مُبتغاة وكرسيٍّ موروث، تتشعب نتائجهُ، من منفى ومن مجاعة وحقّْد والكثير من الحرمان الحياتي المستقر، فتنفتح في هذه المُخلّفات أبواب شتى قد يخلقها من يعيش في متن إحداها أو تفرض عليه، كلّ حسب مآلهِ فالمنفيُّ يقظّ في حلم ينتظر: "دينُ صاحب المنفى اليقظة، وليس الطمأنينة" (ص 152).
وبما "أن الحرب إرهاب النفوس قبل أن تكون قدرةً على قهر النفوس"ص595، تنتشي النفوس الرافضة للذّل بالبطولة التي لا تختلف عن الجنون في هكذا حربٍّ غير متكافئة وقد تخنع نفوس تحت ظلِّ الطاغي متأملةٍ في كسبٍّ لا يدوم: "المملوك في مملكة الدنيا أفضل من ملكٍ في مملكة الظلال" (ص 272).
لا يترك الكوني الكتب والشعر دون أثرّ لشغفه بهما ويجعل منهما ملاذاً آخر ضد الوقت المُهان لكنهما لا يُفضيان إلى الخلاص: "قد تُجدي الكتب في مداواة الإحساس بالوقت، ولكن هيهات أن تُجدي في نيل الخلاص من كيّد الدنيا" (ص 203).
ويبقى الخلاصُ كرة تتقاذفها أرجل المنفعة متجسِّدةً في الغرب، والطغيان متجسِّدة في الانتقام، والحريّة متجسِّدة في الشعب، ومَرّدُ ذلك كله هو البعد عن الحبّ فهو المُسبِّب في ولادة الخراب وديمومته ودفع فاتورة باهظة الثمن إلى قشعريرة روحهِ: "لأن العجز عن الحبّ هو الثمن الذي تدفعه مِلتنا مقابل القمامة التي ظنناها كنزاً والمُسماة بالعرش" (ص 527).
= = = = =
الكوني، إبراهيم. 2011. "جنوب غرب طروادة؛ جنوب شرق قرطاجة". دبي: كتاب مجلة "دبي الثقافية".