عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 97: 2014/07 » إبراهيم المصري: بين العصامية والإبداع

د. يسري عبد الغني عبد الله - مصر

إبراهيم المصري: بين العصامية والإبداع


يسري عبد اللهإبراهيم المصري علامة مضيئة في سجلنا الأدبي الحديث، وبخاصة في مجال القصة، وتجربته مع الحياة هي تجربة الإنسان العصامي المكافح الذي أراد أن يشق طريقه بنفسه ولا يعتمد على أحد.

إبراهيم سليمان حداد، الشامي الأصل، الذي اشتهر باسم إبراهيم المصري، كان مولده في مطلع القرن العشرين، ووفاته في 13 من أكتوبر (تشرين الأول) 1979، يأتي في طليعة كتاب القصة المصرية التي وصلت قامته فيها إلى مكانة عالية منذ بواكيرها. وما زالت مجموعاته القصصية الكثيرة تقرأ لما فيها من نظرات صحيحة وتماسك وحبك، وغوص في بواطن النفس مع جمال العرض وطرافة العبارة وشاعريتها إلي جانب ما أسبغه عليها من تأملات وعطف كبير علي كثير من شخوصها المنتمين إلى الطبقات المتدنية النازلة وقد اتحد حسه وعقله في تصوير مشاهد الحياة الحافلة بالتقلبات والمفارقات. وهو من القلائل الذين خبروا سرائر المرأة وأبانوا عن خفاياها الغامضة.

وقبل أن أعرفك بهذا الأديب المتفرد أذكر لك أنني كان لي شرف اللقاء به في عامي 1975 و1978، في نادي القصة بالقاهرة حيث كنا نبحث كشباب عن ذواتنا في عالم الكتابة والإبداع، وقد كان لنا نعم المشجع والمحفز والموجه، فرحمة الله عليه جزاء وفاقا لما قدم للأدب العربي.

كما أحب أن أشير هنا إلى كتاب مهم أعتقد أنه الوحيد تقريبا الذي كتب عن إبراهيم المصري، وأعني بذلك كتاب "إبراهيم المصري رائد القصة النفسية: مدخل ببليوجرافي"، الصادر في لبنان سنة 2010 لسلمى مرشاق سليم، المصرية المولد والنشأة، والتي تلقت تعليمها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهي من شوام مصر، لبنانية الأصل والإقامة، وقد اهتمت في رسالتها للماجستير بالشوام الذين أقاموا بمصر. ولو قدر لها اللقاء بإبراهيم المصري لأثرت كتابها وأضافت الكثير والكثير، مع كل التقدير لجهدها البحثي.

وسط حي شعبي متواضع وبين أسرة كان معظم أفرادها لم يتلق أي قسط من التعليم، يرزخون تحت وطأة الفقر، ولا يفكرون إلا في لقمة العيش، نشأ إبراهيم المصري في هذه البيئة فعز عليه أن يكون خلفهم، يظل يحيا تلك الحياة الخاملة التاعسة التي لا ينفذ إليها ولو بصيص من نور.

كان رجلنا بطبعه طموحا محبا للعلم و المعرفة، متطلعا إلى الثقافة والفهم والوعي والإدراك، كان يخالس الأمل في أن يغالب الفقر والحاجة، ويذلل العقبات، ويتفوق على البيئة التي أراد له القدر وشاء أن ينشأ فيها.

كان والده رجلا لم يتلق من التعليم غير القشور، ورغم ذلك كان مولعا بالأدب، شغوفا بمطالعته، محبا لإلقاء الشعر، وفي وقت صفائه لا يفتأ يترنم بأبيات للبحتري وأبي الطيب المتنبي وأبي تمام، وهو في نشوة لا تعادلها نشوة، فكان ينظر إليه معجبا، ويتأمله مأخوذا، وأشرب الأب في نفس الابن منزعه، وأحس أن روحه تستجيب إلى روح الأب، وأن في أعماق ذاته قوة خفية مكبوتة أظمأ ما تكون هي الأخرى إلى الارتواء من ذلك المنهل الرائع، منهل الأدب والفكر.

ومن تأثير والده عليه، ما كان يعتمل في قرارة نفسه من ميول ونزعات، دفعته لأن يطالع من الكتب كل ما كان يقع تحت يده، وكل ما يمكن أن يستعيره من الغير، وكل ما كان في وسعه أن يشتريه بمصروفه القليل، والذي في معظم الأحيان لا يحصل عليه.

غير أن مصروفه هذا كان لا يزيد في اليوم عن قرش تعريفة أو صاغ في أحسن الأحوال، وفي الأعياد والمواسم يمكن أن يصل إلى قرشين، فأحس إذ ذاك أن سبيله إلى التفوق هو الحرمان، وأنه بالحرمان يمكن أن ينقع غلته، فأخذ يقتر على نفسه، ويخنق مشتهيات في صدره، ويكف عن شراء البسبوسة والكنافة والبسيمة، تلك الحلوى التي كان يحبها ويعشقها، أخذ يضم القرش إلى القرش، والمليم إلى المليم، ليشتري الكتب المستعملة، وينكب على القراءة وهو في شبه غائلة من الحمى.

كان إبراهيم المصري قد بدأ دراسته في كلية فرنسية مجانية، فأخذ يجاهد المستميت ليجيد لغة غريبة عنه، ويجاهد في الوقت ذاته ليتمكن من اللغة العربية، ويستطيع أن يعبر بها عن أفكاره ومشاعره.

هذا الحب المزدوج أضناه، فكان في بعض الساعات يرتعد خوفا من مواجهة اليأس والفشل، وتنهمر من عينيه الدموع، فيسرع ويهيب بكبريائه، ويستنهض مدخر عزيمته، ويمضي في الدرس والتحصيل حتى يكل بصره، وتضمحل قواه، فتشفق عليه أمه، وتصرخ ملتمسة منه أن يرحم نفسه، فلا يزيده صراخها إلا عزما يسد به رمقه، ولا يكف عن السهر تحت ضوء مصباح الغاز الصغير، يعب من مصنفات ابن المقفع والجاحظ وعبد القاهر الجرجاني، وما كتب محمد المويلحي والمنفلوطي وقاسم أمين وفتحي زغلول، دون أن ينسى الروايات البوليسية والغرامية والتاريخية يفرج بها آخر السهر عن نفسه.

هذه المطالعات الأدبية استبدت به واستغرقته تماما، وملكت عليه كل فكره وحواسه، باعدت بينه وبين علوم الرياضيات التي كانت جزءا مهما من دراسته في الكلية، فنفر من الهندسة، وكره الجبر كرها شديدا، فرسب في امتحان الكفاءة، وأثر ذلك على والده وأهله بعد أن وضعوا فيه منتهى أملهم، مما جلله الفشل بالخزي والعار.

أيقن إبراهيم أنه لن يحصل أبدا على مؤهل، وأن جهاده يجب أن ينصرف إلى ما تنزع إليه طبيعته، وأنه لو عجز عن التفوق، على الأقل في ميدانه، فلن يضمن له أي مستقبل، ولابد أن يرتد إلى بيئته ويعيش نفس الحياة الراكدة التي يحياها أهله.

ولكن كيف؟ كيف يتفوق في الأدب الذي جعل منه قبلته؟ وكيف يتسنم سنامه وذروته، التي عقد عليها آماله؟ هل يكون مقلدا؟ هل ينحو نحو الجاحظ أو الجرجاني أو المويلحي فيكرر القديم ويغدو عبدا له؟

أحس أن لا مفر لعقله من لقاح جديد، ولا مفر لظمئه من ماء قراح لم تذقه أبدا شفتاه، فتتطلع إلى منهل آخر، إلى الأدب الفرنسي الرفيع، وتلهف على اقتحامه.

بيد أنه لم يكن يعرف ماذا يقرأ منه بالتحديد، كان يقرأ ولا يفهم، كان لا يعرف أي آثار هذا الأدب يجب أن يختاره، ويجب أن يعالجها في مبدأ الأمر ويتمرس بها كي يعلو بعد ذلك عليها، ويقفز منها إلى الأعماق.

واحتوته الحيرة، وناء عليه الكمد والضيق، وعندئذ تفتحت أمامه سبل كل شيء بغتة، وكأن طاقة نور قد فتحت له، أسعفه الحظ برجل عظيم، أستاذ فرنسي من أساتذة الكلية، كان مستشرقا وعالما وأديبا، هذا الرجل هو الذي أوقد لإبراهيم المصري الضوء الأخضر، هو الذي جاء له بالروائع الأدبية وبصره بها، وهو الذي حثه على مطالعة : فلوبير و بلزاك و استندال من القصاصين، وفولتير وديدرو ومنتسيكو وجان جاك روسو ورينيه ديكارت من الفلاسفة والمفكرين، بل أنه هو الذي أرشده إلى كتاب البارون كاردي فو عن مفكري الإسلام، وما قدموه للدنيا وأثروا به الغرب في العصر الوسيط.

كان هذا الأستاذ يزوره في بيته، ويعيره مختلف الكتب، ويقرؤها معه، ويعاونه على استجلاء كل ما كان غامضا منها أو مستبهما عليه، حتى انطلق يمرح في فسحات الأدب الفرنسي بمفرده، وقد اشتد فضوله، وزاد نهمه، وضاعفت ثقافته الجديدة من لهفته على ثقافات أخرى، وعوالم من الفكر الإنساني غير الفرنسي، تمثلت له بأشباه جنات ساحرة عجيبة خارقة الثمر، فتولدت في نفسه إذ ذاك عقيدة يؤمن بها، ويأخذ منها منارا وحافزا لحياته.

لقد رسخ في وجدان إبراهيم المصري أن للإنسان إرادة، وأنه مخير في معظم ما يبتغي، وأنه مخلوق حر، في مقدوره أن ينحت بنفسه تمثاله، وأن يبدع بنفسه خصائص لشخصيته، وأن يشيد بنفسه بنيان حياته، وأن يثبت أمام الأحداث والصعاب بل ويتحدى عند الاقتضاء تصاريف القدر.

قال المصري في نفسه : إن الله ما دام يثيب الإنسان على الخير، ويعاقبه على الشر، فهو إذن حر في فكره، حر في اختياره، حر في مسلكه، وما الحرية إلا إرادة، وما تجربة الحياة إلا تجربة الإرادة، أما التواكل فرمز التخاذل والضعف والانهزام والموت، بهذا الاعتقاد الراسخ تسلح إبراهيم المصري أيضا لصون كرامته، والبحث عن أي عمل شريف يربح منه مالا يمكنه من شراء الكتب التي يعشقها، والإنفاق على نفسه، والاستغناء عن كل عون تقدمه له أسرته التي تستحق كل العون والمساعدة.

طرق جميع الأبواب، قدم للشركات ورجال الأعمال مختلف الطلبات، اتصل بأصحاب المدارس الخاصة، وعرض عليهم أن يكون معلما للأطفال، بذل المستحيل في طوافه وتطوافه، حتى عثر في النهاية على وظيفة متواضعة في البنك العقاري المصري، ولكن شهوة المعرفة والقراءة كانت أقوى منه، فضبطه رئيسه في البنك وهو متلبسا بمطالعة الكتب أثناء وأوقات العمل، وبسرعة البرق استصدر من الإدارة قرارا بفصله من البنك، مبررا هذا الإجراء بأن المصري فتى خيالي جامح النزوات والأهواء، ولا يحترم النظام، ولا يصلح لأي عمل ثابت ومحدد ويومي.

وهكذا انصبت عليه مرة ثانية نقمة أهله المساكين، فلم يطق الحياة عالة على أبيه، فشرع يكتب للصحف، الوقت بعد الآخر، بعض المقالات لقاء أجر زهيد يحفظ عليه في البيت ماء وجهه، مع الوضع في الاعتبار أن أغلب ما ينشره لا يتقاضى عنه أي أجر.

ورغم ذلك فقد كان يعاني ألوانا متعددة من الحرمان والضيق والتشرد والعذاب، ولكنه أبى ألا أن يمضي في جهاده، وأن يظفر بالمزيد من الثقافة والمعرفة، وأن يتفوق في الكتابة ويتعمق في النظر والتفكير، وأن يستكمل ثقافته بحيث تتسع آفاقها لتشمل العالم أجمع.

ماذا فعل إبراهيم المصري وهو الشاب الفقير الذي ليس في وسعه أن يحصل على بغيته من الكتب النفيسة التي تشبع في نفسه ذلك النهم الفكري المستبد به دائما وأبدا؟ يمم وجهه شطر دار الكتب المصرية (الكتبخانه) الكبرى بحي باب الخلق بالقاهرة.

كان يذهب إليها في الثامنة صباحا فور أن تفتح أبوابها للقراء، ويجلس فيها حتى الواحدة ظهرا، ويطلب من كتب الأدب والفلسفة الإنجليزية والألمانية، ما قد ترجم إلى الفرنسية، كما كان يطلب بعض الكتب في الرياضيات والعلوم التجريبية التي كان ينفر منها وتجهد فكره مع ذلك ليفهمها، ثم يغادر المكتبة متعبا مكدودا، فيعرج على مطعم شعبي بجوار المكتبة ويتناول غذائه سندوتشا من الفول أو الطعمية، ثم يظل يضرب في الشوارع حتى الساعة الرابعة، كي يعود إلى الكتبخانة، ولا يغادرها إلا في الثامنة مساءا عندما تغلق أبوابها.

ثلاث سنوات أمضاها على هذا الحال، يطالع ويتثقف فلا يشبع من فكر، ولا يرتوي من علم، فيشتد ظمأه، فيواجه بحر المعرفة الممتد أمامه، ويود لو استطاع أن يشربه عن آخره.

هذا الجهد الجاد المتصل، هذا العذاب المرير، هذا التطلع العنيد إلى احتواء الرائع الجليل من مولدات الفكر الإنساني، هذا كله أيقظ وجوده، أشعل جذوة قواه المستقلة الكامنة، فمضى في طريقه أثبت قدما، وأوفر ثقة، وأنضج فكرا، وأكثر أملا في مستقبل مرموق كان هو غاية حياته.

والتمع فجأة أول شعاع من فجر ذلك المستقبل. حدث أن زار مصر الشاعر الهندي الكبير طاغور، وكان المصري مولعا بشعره أشد الولع، فانتهز الفرصة وكتب عنه مقالا ضافيا بعث به إلى جريدة البلاغ، فأعجب بها صاحبها المرحوم عبد القادر حمزة، وأسرع بنشره في صدر الصفحة الأولى من جريدته.

هذا النجاح الطارئ، هذا النجاح غير المنتظر، أثلج صدر الشاب، وضاعف إيمانه بنفسه، فلم يتمهل، وسارع بكتابة مقالة جديدة أرسلها إلى صاحب البلاغ مما أودع الثقة في نفسه، فاتصل به، وضمه إلى هيئة التحرير، وعهد إليه بكتابة الصفحة الأدبية في جريدة البلاغ.

لقد أصبح الطريق واضحا أمام المصري، ولكنه كان طريقا زاخرا بالأشواك والمتاعب والصعاب، كان عليه أن يبذل أشق الجهود ليحتفظ بثقة صاحب العمل، ويكسب ثقة القراء وإقبالهم على ما كان يكتب.

لم يتهيب الموقف استجمع له عزمه، وأفرغ في العمل صفوة جهده، فحالفه النجاح والتوفيق، وطرب لذلك. بيد أنه لم يلبث أن شعر أن هذا النجاح في دنيا الصحافة وحدها لا يمكن أن يرضيه، وليس هو ما يطمح إليه.

كانت غايته أن يسهم في بناء النهضة الأدبية العربية والمصرية وأن يصل بينها وبين منابع الفكر الغربي، على أمل أن تجدد منازعها ووحيها وروحها، كان يرغب بصدق أن يضع الكتب والمؤلفات في هذا، ثم يحاول أن يبدع، ولا سيما في القصة الذي أحس المصري أنها كفن إبداعي فيه تتركز أهم عناصر شخصيته، كأدب ذاتي يكشف عن جوهرها الخاص وطابعها المستقل، ويلتقي فيه اللون المحلي لبلادنا بالمنزع الإنساني العالمي.

لقد تمكن هذا الرجل بالإرادة الثابتة والعزم القوي الصادق والصبر الطويل، من إخراج عدة مجموعات قصصية ما بين عصرية واقعية، ووجدانية تحليلية، يضاف إلى ذلك قصصه التي تدور حول فكرة فلسفية تتعلق بمصير الإنسان أو التي استمدها من أحداث التاريخ.

= = = = =

قدم المصري للمكتبة العربية العديد من الأعمال المهمة، وألف العديد من الكتب التي شملت الدراسات الأدبية والنقدية والتراجم والقصة القصيرة، إضافة إلى ترجمة أعمال أدبية أجنبية.

من مؤلفاته:

= "أعلام في الأدب النسائي" (1970).

= "قلب المرأة" (1970).

= "أغلال القلب" (1972).

D 26 حزيران (يونيو) 2014     A يسري عبد الله     C 0 تعليقات