كتاب فتح 1983: بيانات الانشقاق/الانتفاضة
1. مذكرة المطالبة بالإصلاح ضمن الأطر الحركية
مذكرة العقيد أبو موسى: اجتماع المجلس الثوري لحركة فتح في عدن: 27/1/1983
1. مذكرة المطالبة بالإصلاح ضمن الأطر الحركية
مذكرة العقيد أبو موسى: 27/1/1983
اجتماع المجلس الثوري في عدن
الأخ أمين السر
الإخوة الأعضاء
أسجل أنه في بداية حديثي، وبعد مضي خمسة أشهر على الخروج من بيروت، أنه لا يوجد بين أيدي كوادرنا، القيادية على الأقل، أيّ تقييم للحرب التي اجتزناها وما رافقها سياسيا (ناهيك عن المرحلة التي سبقتها) سواء في الإطار الفتحوي أو في الإطار الفلسطيني أو العربي أو الدولي.
وأسجل أيضا أننا نخوض غمار معركة سياسية خطيرة تنعدم فيها الرؤية، وتنفصل عن المرشد والدليل دون أيّ تقييم للمرحلة التي نجتازها ولا آفاق المستقبل الذي نتوقعه. وأسجل بكثير من الخوف منسوب الجرأة العالي في اقتحام آفاق مجهولة يشير كل ما يحيط بها إلى منحدرات ومنزلقات ملغومة.
سأتحدث في جانبين: تنظيمي وسياسي.
من الواضح أن تنظيم فتح بما في ذلك أجهزتها وقواتها تعاني منذ الحرب من حالة اختلال توازن حادة، تترافق بأعراض تفسّخٍ مدمرة برزت بأشكال مختلفة من التسيب والانفلاش والضياع يكرسها شعور مفجع بأن أحدا لا يعنيه أن يبحث عن حلول أو مخارج تنقذنا وتستنهض جماهيرنا. ونتيجة لذلك أخذ الأعضاء يعانون من هزيمة نفسية أدت إلى تبلبل الأفكار والخوف من المستقبل وطغيان التخاذل واللامبالاة وتفشي الانهزامية والبحث عن حلول فردية.
ولقد انعكس هذا الواقع سلبا على الجماهير فتنامى لديها شعور بالعجز ودارت (ماكينة) دعاية مشبوهة تعمق لديها إحساسا بأنها قاتلت وحدها، وأنها أمام هذه الصورة دون أصدقاء وأن أعداءها وأصدقاءها في سلة واحدة، وأنها أمام هذه الصورة عليها أن تقبل بأي شيء يعرض عليها، قبل ضياع الفرصة وقبل فوات الأوان وأن هذا يعني أن نفهم أن مرحلة الكفاح المسلح قد انتهت وأن انخراطها في الثورة لم يجرّ عليها غير الفواجع والنكبات.
ولم تكن الكوادر القيادية (بما في ذلك المجلس الثوري) أحسن حظا من أعضاء الحركة الآخرين، فهم أيضا ونتيجة شعورهم بالضياع وانفصام مشاعرهم بين الحرص على الحركة وبين عدم تصديقهم لما يجري، عانوا ويعانون من اختلاط الرؤيا مؤكدين العجز عن تفسير الأحداث وعن إقناع الأعضاء واكتفوا بجواب محزن: «اقرأوا الجرائد واسمعوا الأخبار».
ولعل سبب كل هذا يتمركز في اللجنة المركزية، أو بصورة أدق في أعراف العمل والقيادة داخل اللجنة المركزية التي لا تحكمها أصول، ولا تضبطها لائحة، ولا تنسجم مع نظام، فكلكم سمعتم معظم أعضاء اللجنة المركزية يعلنون جهلهم بما يجري أو بجزء منه ويعلنون معارضتهم لما يجري أو الجزء منه وينحون باللائمة على شخص أو أشخاص، ويعترفون بمرارة العاجز بعدم القدرة على وقف أيّ شيء، وهم لا ينسون أن يشيروا إلى مواجعهم وأسبابها أو إلى فقدان الكثير من صلاحياتهم أو إلى اضطرارهم لمماشاة الأمور حتى لا تتدهور أكثر. وبكلمة أخرى، إنهم يتحدثون خارج الاجتماع عن كل شيء ويصمتون في الاجتماع عن كل شيء.
هذا عن الجانب التنظيمي. أما عن الجانب السياسي:
فقبل أن أتحدث بالتفصيل فإنني أقسم بدم الشهداء وبفلسطين أنني لا أصدق أن ما يجري على الساحة الفلسطينية يزيد عن كونه كابوسا مزعجا يرهق النفس ويدمر الأعصاب ولكنه لا يمكن أن يكون على علاقة بالواقع أو بالحقيقة.
لقد أقسمنا يمين الولاء لفلسطين وأقسمتُ يمين الولاء لـفتح. وفتح كما أفهمها هي النظام الأساسي والبرنامج السياسي. هل ما يجري له علاقة بنظام أو برنامج؟ وأكثر من ذلك، هل ما يجري له علاقة بمنظمة التحرير الفلسطينية أو بميثاقها أو برامجه السياسية المعلنة؟ والذي ألخصه بالنقاط التالية:
أولا: إن التوقيع على قرارات فاس يعني الاعتراف بوجود إسرائيل. ولأننا وضعنا أنفسنا على سكة التنازلات، فإن أميركا لا تكتفي بوجود إسرائيل، وتريد أن نعترف علنا بوجود إسرائيل. أما أنا فلست معنيا بتعدد الاعتراف وأشكاله والفرق بينهما من اعتراف واقعي إلى اعتراف قانوني، وما [إذا] كان الاعتراف بالوجود أو بحق الوجود، فهذا من شأن دارسي القانون، أما أنا كمناضل فأفهم أنه اعتراف وبالشكل الذي أرادته أميركا والصهيونية والرجعية، كخطوة أساسية في فاس والبقية تتبع.
وكذلك فإن مجرد التصريح بالاستعداد للاعتراف المتبادل مع إسرائيل ينسف قوانين الصراع بين الأمة العربية والكيان الصهيوني لأن هذا يجعل لبنان الذي يفاوض (إسرائيل) الآن يعترف ويصالح بين الأمة العربية وينهي الصراع، طالما الفلسطينيون على استعداد للاعتراف المتبادل، ويجعل الأردن الذي سيلحق بالمفاوضات قريبا يعترف ويصالح وينهي الصراع، ويجعل العراق الذي أبدى استعداد للمفاوضات المباشرة أن يفعل نفس الشيء.
إن التوقيع على قرارات فاس يعني إنهاء حالة الحرب مع (إسرائيل) —كما أعلن رئيس المؤتمر الملك الحسن— وتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية على ذلك يلغي أيّ مبرر لوجودها وبقائها واستمرارها فالحرب انتهت إذن. ومعروف في القانون الدولي أن إنهاء حالة حرب يعني أن المفاوضات هي الطريق الوحيد لحل التناقضات وبالتالي تفقد كلمة التحرير معناها.
ثانيا: إن الحوار مع النظام الأردني والأشواط التي قطعها والمعلومات التي رشحت عن هذه المحادثات تشير —والتفاصيل تدعم قولي— أنها تجري على أرضية مشروع ريغان، ليس لأن الملك يعتبر هذا المشروع فرصة لا بد من الإسراع في انتهازها، ولا لأنه يطالبنا بالاعتراف بإسرائيل، ولا لأنه يطالبنا بتفويضه بتمثيل شعبنا في الحوار مع الولايات المتحدة فحسب، وبالمناسبة إن المشاركة في وفد أردني هو أحد أشكال التفويض، ولكن لأن تصريحات فلسطينية تحدثت عن إيجابيات مشروع ريغان ولأن عضوا في اللجنة المركزية لحركة فتح صرّح بأن الرئيس ريغان لا يستطيع أن يقول إنه لم يتلق ردا على مشروعه المتعلق بالترابط، ولأن الملك أعلن نجاح محادثاته مع ريغان بعد ذلك. وهذا النجاح لا يمكن أن يتم إلا على أرضية ما وافق عليه الملك وهو مشروع ريغان.
وأنا في غنى عن التذكير أن مشروع ريغان وما يقرره من علاقة مع الأردن ومن هوية مشتركة يعني تغييب الهوية الفلسطينية والشخصية المستقلة، وهو ما كانت تسعى إليه الصهيونية طيلة الوقت، ويعني أن جماهيرنا في الأرض المحتلة سيتحولون إلى لاجئين على أراضيهم، وبالتالي تحقيق مساواتهم مع إخوانهم اللاجئين خارج فلسطين.
الكوادر لا يقنعها ولا يخفف من مخاوفها أن يقال إن الحوار مع الأردن هو لعبة الأذكياء، ولا يتحول من يقولها إلى ذكي بالفعل لأن لعبة الأذكياء ليست مجردة من موازين القوى. وميزان القوى كما هو واضح على الأرض مختل لصالح الملك حسين. فأميركا وإسرائيل والدول العربية يقفون في الكفة التي يقف فيها الملك حسين من ميزان القوى. وهذا يجعل اللعبة معه لعبة خطيرة لا علاقة لها بالذكاء لأن اللعبة هنا تتعلق بمصير فلسطين.
ولم يعد يقنع الكوادر أيضا، وهم لمسوا ماذا تفعل مخابرات الملك بالعائدين منهم إلى الأردن بعد تدقيق مهين، أن يقال لهم إننا نريد أن نكون بين شعبنا في الأردن، أو قريبين من أهلنا في الأرض المحتلة من أجل إدخال السلاح والإمكانيات وتصعيد الثورة، فالذين يأمرون بمنع تهريب الأشخاص أو السلاح عبر الحدود الأردنية-السورية يعرفون ما معنى هذا. ولقد سبق إن قيل لنا إن مبرر قبولنا باللجنة المشتركة قبل أربع سنوات هو أن نكون قريبين من أهلنا وأن ندخل السلاح. وثبت أن هذا المبرر ليس صحيحا، فمئات الملايين من الدولارات التي صرفت باسم اللجنة المشتركة لم تتمخض ولو عن عملية واحدة ذات قيمة ضد العدو طيلة أشهر الحرب وحتى الآن.
إنني أذكر هنا أيضا أن مجرد العلاقة مع النظام الأردني في ظل مواقعه الحالية يشكل خرقا لقرارات المجلس الوطني الأخيرة الذي وضع شرطين لإقامة علاقة معه:
أولهما: استمرار رفض النظام لاتفاقية كامب ديفيد ومؤامرة الحكم الذاتي.
وثانيهما: استمرار التزامه بقرارات قمم الجزائر والرباط وتونس وبغداد.
ومن المؤكد أن الشرطين غير متوفرين.
ثالثا: إن فك العزلة عن نظام حسني مبارك يعني فك العزلة عن نهج كامب ديفيد، والقول بأننا لا نطالب نظام حسني مبارك بالتخلي عن كامب ديفيد وإلا أصاب العرب كارثة جديدة، يعني فك العزلة عن كامب ديفيد. إن الحرب في لبنان قد توجت بمشروع فاس. ومشروع ريغان هو مشروع الحكم الذاتي الوارد في الاتفاق الثاني من اتفاقيات كامب ديفيد. وليست زيارة الأخ أبو عمار إلى مصر وحدها التي تعني فك العزلة عن نظام مبارك، فاللذين يزورون ويقابلون ويتحدثون مع أركان النظام المصري يقومون بفك العزلة عن نظام مبارك. وهذا يفتح الباب واسعا أمام من يريد من العرب تقليدنا. وصدام حسين مثال أولي. ولا أريد أن أذكركم بأن هذا يخالف قرارات مؤتمركم الرابع الذي يدعو إلى إسقاط مؤامرة كامب ديفيد وإعادة مصر ثانية إلى الصف العربي لأخذ موقعها الطبيعي في النضال العربي، وأنه يخالف قرارات المجلس الوطني الأخير، الذي يدعو إلى إحكام العزلة على النظام المصري حتى يسقط كامب ديفيد نهجا وآثارا ورموزا.
رابعا: إن الاتصال بمنظمات صهيونية تحت اسم الاتصال بقوى السلام والديمقراطية في «إسرائيل» أمر ينسف واحدا من أهم مبادئنا وهو المبدأ السابع الذي يقول: «الصهيونية حركة عنصرية استعمارية عدوانية في الفكر والأهداف والتنظيم والأسلوب» والذي يضرب مصداقيتنا أمام أصدقائنا في العالم الذين انتصروا لنا فأقرّوا في الأمم المتحدة أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية، ويتناقض مع قرار المجلس الوطني الذي يدين الاتصال بمنظمات صهيونية.
إنني شعرت بالهلع حين رأيت صورة وفدنا الفلسطيني في مواجهة الوفد الصهيوني مباشرة يتحادثان في فينا كما قيل من أجل إطلاق سراح الأسرى. وليس كرايسكي الذي أعلن هذا فحسب، وإنما أعلنه شامير نفسه، مبررا ذلك بارتفاع بارومتر الإنسانية لدى العدو. وشعرت بهلع أكبر وأفظع عندما رأيت صورة اللقاء الذي جرى في تونس وعلى أعلى المستويات. أنا لا أعرف ماذا أقول؟ هل أكتفي بالإدانة؟ هل أسأل من قرر هذا؟ لا أعرف كيف سنبسط الأمور ولا كيف سنفسر.
خامسا: إن بقاء قواتنا مشتتة دون بذل أيّ جهد لإحضارها وحشدها في مواجهة العدو، وخاصة في لبنان، وحين نسمع التصريحات بأن باقي مقاتلينا في البقاع والشمال مرهون بموافقة أمين الجميل، أو أننا لن نكون عقبة في وجه استقرار لبنان، وحين تُسحب قواتنا بالتدريج، وبأشكال مختلفة بدلا من سحب قواتنا من الخارج إلى لبنان، يعني التزامنا بإنهاء حالة الحرب، ويعني وقفا غير معلن للكفاح المسلح، ويعني أن وجود شعبنا في لبنان هو وجود لاجئين وليس أكثر.
سادسا: إن بقاء قيادتنا مشتتة وعقد الاجتماعات كل يوم في قارة يعني عدم اهتمامنا بالمصروفات الباهظة التي يجري إنفاقها نتيجة «الجرجرة» التي أصبحت سمة العمل في حركتنا، فهذا الوضع يجعل من غير الممكن اتخاذ القرار المناسب في المكان المناسب وبالشكل المناسب، وخاصة في هذه المرحلة الخطيرة التي يجري العمل فيها لتصفية قضية فلسطين، وتستوجب أن يكون عقل الحركة حاضرا، وقيادتها في حالة انعقاد دائم. لا أريد أن أقول كيف أفهم هذا الوضع، ولا كيف أفهم معنى الاستمرارية فيه.
الأخ أمين السر، أيها الإخوة:
صحيح أن الظروف الموضوعية تفرض أحيانا مساومات أو تراجعات وذلك على ضوء الواقع والمتغيرات. وصحيح أيضا أن ثورات الشعوب الأخرى عالجت قضايا من هذا القبيل، وهي معالجات مشروعة ثوريا وعلميا. ولكن الثورات التي اجتازت مأزقا من هذا النوع انتهجت أسلوبين متكاملين في آن واحد.
الأول: مرونة متزنة تتجاوز الظروف المستجدة بكل سلبياتها.
الثاني: تمتين الوحدة الداخلية في ظروف المأزق.
ومفهوم المرونة في نظري يكون في استعمال التكتيكات التي تتعامل بوعي مع الوقائع والظروف المستجدة التغيير فيها، وبانسجام مع ما تفرضه استراتيجية النضال، وبشكل يضمن تكامل قراراتنا بين ما تفرضه الوقائع المستجدة وما نلتزمه من منهج ثوري.
أما تمتين الوحدة الداخلية في ظروفنا الحالية، فيكون بتصليب الموقف الداخلي، وتعميق الخط السياسي الذي تلتزم به الحركة، ويكون بتطهير الحركة من العناصر المشبوهة، وبالاعتماد على العناصر التي تملتك استعدادا لمواجهة المشاريع المشبوهة والتي تتضمن مواجهة المأزق وإنجازه بسلام.
إنني أقول إن ما يجري يدمر كل شيء. إنه انخراط في الدوامة وليس اعتراضا لها، إنه تكتيك لا علاقة له بالاستراتيجية، ويحول هذه التكتيكات الغريبة إلى استراتيجية، ويخلط الأعداء بالأصدقاء، بل ويحول الأعداء إلى أصدقاء ووسطاء ويجعلنا نركن إلى تطمينات وضمانات محور عربي رجعي، يوحده مع الإمبريالية وحدة الهدف والمصير، ويسعى مع الإمبريالية و(إسرائيل) إلى تصفية قضيتنا، وخلق منطقة إجماع استراتيجي في الشرق الأوسط كما تريده الولايات المتحدة. كما أن ما يجري يدمر الوحدة الداخلية، لأنه لا صلة له بالخط السياسي الذي يرشد الحركة، ولأن القاعدة لا علاقة ولا قناعة لها به.
إن غالبية الكوادر في الحركة لا يقنعهم أن يقال إن الحركة السياسية شيء آخر، فليس في هذا التفريق أكثر من خلط الألوان، وعملية إيحاء بأن الزمام في أيدينا وأننا نكسب الوقت، ومثل هذا الكلام يشوش الإصلاحات في أذهاننا ويلزمنا باستخراج معان لها نحاول أن تكون مقنعة. ورغم هذا التشويش أتساءل: ما المقصود من كسب الوقت؟ وما هي الأهداف المنوي تحقيقها من كسب الوقت؟ وإذا كان هذا مجرد حركة سياسية أو تكتيك فسوف نصل إلى جدار مسدود، وعند ذلك هل سيسمح لنا بالتراجع؟ وهل نستطيع التراجع؟
يبدو أن نتائج عكسية تحصل مع مضي الوقت، فالوقت الذي تستغرقه هذه الحركة السياسية ينهش كوادرنا، حيث يمضي دون تحصين لمواقعنا في لبنان، ودون قتال للعدو، والوقت يمضي دون تجميع لقواتنا ودون ترتيب للأوضاع، ودون تطهير للصفوف، ودون إقناع بما يجري. إن غالبية كوادرنا تشعر بخطر هذه الحركة السياسية وهي بالنسبة لهم خروج عن بديهيات النضال.
الأخ أمين السر، أيها الإخوة:
أنا أفهم الواقعية الثورية بأنها تقترب من الواقع الفاسد لإحداث التغيير فيه، أما الواقعية التي ترى أن السياسة هي فن الممكن، فإنها تقوم بالانخراط في الواقع الفاسد والامتزاج فيه. ولو كان شعبنا يريد الممكن، لاستغنى عن نضالكم وثورتكم، لأن الممكن الذي كان سبب انطلاق هذه الثورة كان أحسن مئة مرة من الممكن الذي يحيط بنا ويروج له.
فهل الذي يجري الآن واقعية ثورية تسعى لتغيير الواقع الفاسد، أم أنها تتعاطى مع الواقع الفاسد وتنخرط فيه ضمن سياسة فن الممكن؟
إن أخطر ما يجري الآن أنه لا يتقرر في اللجنة المركزية ولا في المجلس الثوري، مع العلم أنه ليس من صلاحيات اللجنة المركزية ولا من صلاحيات المجلس الثوري إقرار قضايا على هذه الدرجة من الخطورة، فصلاحيات اللجنة المركزية تكون في السهر على تحقيق التماسك داخل الحركة وعلى تطبيق النظام الأساسي والبرنامج السياسي. ومن صلاحيات المجلس الثوري مراقبة تنفيذ قرارات [كلمتان غير واضحتين] الذي جرى ويجري [كلمة غير واضحة] اللجنة المركزية أو في المجلس الثوري؟
وهل الذي جرى ويجري له علاقة بالنظام الأساسي أو البرنامج السياسي أو قرارات المؤتمر العام؟ أم يشكل خروجا على شرعية الحركة التي تستمد اللجنة المركزية والمجلس الثوري شرعتيهما منها؟
قبل أن آتي إلى هنا التقيت ببعض أعضاء المجلس الثوري، وأخبروني أنهم لن يحضروا اجتماع المجلس هذا لأن هناك قرارات وإجراءات وتحركات وتصريحات خطيرة قد اتخذت، وهم لا يرون أن صلاحيات المجلس الثوري تقتصر على أخذ العلم بجزء مما يجري، وأن المجلس الثوري لا يستطيع إلغاء ما جرى في فاس، ولا ما جرى في الأردن، ولا ما جرى في مصر، ولا ما جرى في فينا وتونس، ولا وقف إجراءات خطيرة أخرى جرى اتخاذها لأنها تمت وانتهى الأمر. وهم يعلمون أن ما جرى وتقرر لم يتخذ ضمن الأطر حتى يناقش أو يحاسب أو يعترض عليه ضمن الأطر، فلا اللجنة المركزية قررت ولا المجلس الثوري ناقش، ولا اللجنة التنفيذية خططت أو قررت، ولا المجلس المركزي. وهم بتجربتهم يعرفون أنه حتى ما يتقرر ضمن الأطر يجري التنكر له والخروج عليه، سواء اتخذ في المؤتمر العام للحركة أو في المجلس الفلسطيني أو اللجنة المركزية أو اللجنة التنفيذية، وهم يرون أنه حتى لو كان ما اتخذ وانتهى قد طرح قبل اتخاذه، فإن مجرد نقاشه ممنوع لأنه يخرج عن صلاحيات المجلس الثوري واللجنة المركزية، وهو فقط من صلاحيات المؤتمر العام الذي يعود إليه وحده كممثل للقاعدة، حق اتخاذ القرارات المصيرية، وهم يرون أن حضورهم في ظل التقاليد والأعراف السائدة في المجلس الثوري (وهي نفس التقاليد والأعراف التي يعرفون أنها سائدة في اللجنة المركزية) لا يعني أكثر من إلقاء خطبة يقولون فيها ما يريدون وبالتالي إسباغ الشرعية على ما لا يريدون.
الأخ أمين السر، أيها الإخوة:
انطلاقا من الإيمان بفتح وبدورها القيادي على الساحة الفلسطينية، ومن القناعة بأن دورها هذا إنما حصلت عليه بحكم ثوريتها وطليعيتها وتضحياتها، ومن الثقة بأن فتح ستظل حركة الشعب الفلسطيني، الأمينة على قضيته والمخلصة لأهدافه والوفية لدماء شهدائه، أقدم لكم الاقتراحات التالية، موصيا في حال الأخذ بها أن يتضمنها بيان رسمي يصدر عن اجتماع المجلس الثوري، ويعلن موقف الحركة من كافة القضايا المثارة على الساحة الفلسطينية ويعتبرها ملزمة لممثلي فتح في منظمة التحرير الفلسطينية وفي كل مكان.
1. تؤكد حركة فتح إيمانها بصحة الخط السياسي، وصدامية هذا الخط مع الوجود الإمبريالي الصهيوني في فلسطين، وإيمانها بأن العدوان على شعبنا وأمتنا يستهدف حرفنا عن هذا الخط الصدامي وتصفية وهز إيماننا بحتمية انتصارنا، وحتمية تحرير فلسطين.
2. تؤكد حركة فتح على كونها حركة وطنية ثورية مستقلة ملتزمة ببرنامجها السياسي ومحكومة بنظامها الأساسي، وتؤكد أن الثورة الشعبية المسلحة هي الطريق الحتمي الوحيد لتحرير فلسطين وأن تطوير وتصعيد الكفاح المسلح يشكل المهمة الأكثر أهمية من أجل دحر كافة مشاريع التسوية المطروحة بكل ما يتطلبه ذلك من دعم صمود جماهيرنا في الأرض المحتلة وخارجها دعما حقيقيا وثوريا لمساعدتها على التوجه نحو مقاومة الاحتلال وتحرير الوطن.
3. تؤمن حركة فتح أن الصراع مع الوجود الإسرائيلي في فلسطين يمثل صراعا بين وجودين متناقضين على أرض واحدة، ينفي كل منهما الآخر، ولا مجال للتعايش بينهما مهما طال الزمن أم امتدت السنين.
4. تتمسك حركة فتح بمنظمة التحرير الفلسطينية إطارا جبهويا يجسد الوحدة الوطنية، وكيانا سياسيا يذكي طموح التحرير، وممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني.
5. ترفض حركة فتح قرارات قمة فاس، وتعتبرها جزءا من المخطط الأميركي الرامي إلى اعتراف الأمة العربية بالكيان الصهيوني وإنهاء حالة الحرب معه، تمهيدا لتصفية قضية فلسطين، وتركيع الأمة العربية وإحكام القبضة الأميركية على عموم الوطن العربي.
6. ترفض حركة فتح مشروع ريغان باعتباره الفصل الأخير من الهجمة الإمبريالية الصهيونية-الرجعية على الوجود الثوري الفلسطيني في لبنان مقدمة لتمرير المشروع القاضي بحل المشكلة الفلسطينية بالشكل الذي يمهد لمنطقة الإجماع الاستراتيجي الأميركي في منطقة الشرق الأوسط.
7. تتمسك حركة فتح بما ورد في برنامجها السياسي حول تدعيم الحركة الوطنية في الأردن، وتصعيد النضال لإعادة الساحة الأردنية قاعدة ارتكازية أساسية من قواعد النضال والكفاح ضد العدو الصهيوني، وبالتالي فإن فتح ترفض إقامة أيّ علاقة مع النظام الأردني باعتباره أداة في يد الإمبريالية العالمية ضد المنطقة العربية ودرعا يحمي المشروع الإمبريالي في فلسطين، وتعتبر أن العلاقات معه (خصوصا في هذه المرحلة) تأتي انسجاما مع مشروع ريغان، وأن الحديث عن فدرالية وكنفدرالية أو وفد مشترك أو تفويض، أو ما إلى ذلك من علاقات مع النظام الأردني، أمر يتنكر لنضال شعبنا وأمتنا، وينقل الثورة الفلسطينية من قيادة الثورة العربية إلى معسكر القوى المضادة المعادية لطموحات أمتنا العربية وشعبنا الفلسطيني.
8. تتمسك حركة فتح بما ورد في برنامجها السياسي الذي يؤكد على النضال المشترك مع الشعب المصري ممثلا بالقوى الوطنية والتقدمية لأجل إسقاط مقامرة [مؤامرة؟] كامب ديفيد ونتائجها وإعادة مصر ثانية إلى الصف العربي لأخذ موقعها الطبيعي في النضال العربي، وبالتالي فإن حركة فتح ترفض فك العزلة عن نظام حسني مبارك وستظل تناضل حتى يسقط كامب ديفيد نهجا وآثارا ورموزا.
9. ترفض حركة فتح الاتصالات التي جرت مع منظمات صهيونية أو شخصيات صهيونية، وترفض التبريرات التي قيلت لتبرير هذه الاتصالات، وتدعو إلى وقف هذه الاتصالات.
10. ترفض حركة فتح المفاوضات الإسرائيلية اللبنانية الرامية إلى فرض قيود استسلامية على لبنان، مهما كان اسمها، وإلى إلحاق لبنان بنهج كامب ديفيد، وتدعو الدول العربية إلى رفض هذه المفاوضات، وبالتالي فإن حركة فتح تضع كافة إمكانياتها العسكرية والمالية والسياسية في خدمة القوى الوطنية اللبنانية من أجل تصعيد المقاومة الوطنية إلى أن يتم تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني وأدواته، ومن أجل منع استقرار العدو فيه، ومن أجل منع الصلح مع الكيان الصهيوني، أو تطبيع العلاقات معه أو حرمان لبنان من دوره العربي في مواجهة المخططات الإمبريالية-الصهيونية-الرجعية التي تستهدف لبنان والمنطقة.
11. تؤكد حركة فتح أن العلاقات مع سوريا، بحكم موقفها السياسي وموقعها الجغرافي، تشكل ضرورة استراتيجية، لا بد من تعزيزها وتطويرها لإيجاد القاعدة الأساسية المشتركة التي ينهض عليها سد المواجهة الفعلي أمام كافة مشاريع التسوية وكافة المخططات الإمبريالية-الصهيونية-الرجعية ضد وطننا العربي وقضيتنا الفلسطينية.
12. تؤكد حركة فتح على ضرورة النضال لإعادة بناء جبهة الصمود والتصدي لكي تكون جبهة حقيقية تتصدى بكافة إمكانياتها وقواها لدحر المخططات الإمبريالية التي تستهدف أمتنا العربية ولكي تكون حلقة أساسية في إيجاد مقومات رد استراتيجي، بالتحالف مع المنظومة الاشتراكية وفي طليعتها الاتحاد السوفيتي، على الهجمة التي نفذتها وتنفذها الإمبريالية الأميركية وإسرائيل والقوى الرجعية العربية ضد ثورتنا وشعبنا وأمتنا وكافة قوى التحرر في العالم.
13. تؤكد حركة فتح أن استمرار الهيمنة الأميركية على عموم وطننا العربي يشكل ضربا وتصفية لكل قوى التحرر العالمية، وبالتالي فإن فتح تؤكد أن من مهامها الأساسية العمل على توحيد وتوجيه كافة إمكانيات القوى المناهضة للإمبريالية في وطننا العربي، على طريق ضرب وتصفية المصالح الأميركية في المنطقة.
14. تعلن حركة فتح أن الأنظمة الرجعية العربية شريك فعلي للإمبريالية في تنفيذ مخططاتها، وبالتالي فإنها ليست مؤهلة إلا لتمرير المشاريع والمؤامرات الإمبريالية.
الأخ أمين السر، أيها الإخوة:
قد يعتقد البعض أن ما اقترحته من غير الممكن أن تأخذ به حركة فتح. ولكنني أقول إننا نجتاز منعطفا مصيريا في تاريخ نضالنا، وإننا في أعقاب هجمة وحشية نفذتها الإمبريالية والصهيونية والرجعية ضد شعبنا وثورتنا، وما زالت مصرة على استكمالها بهدف تصفية قضيتنا تصفية نهائية، لا أجد غير ما اقترحته ردا ثوريا حازما. وقد آن لنا بعد كل هذا الدم والدمار أن نعي أن ما يسمى بالاعتدال والعقلانية، لا يشكل ردا على عدو فاشي وحشي لا يرحم، ولا يؤدي إلى عرقلة أو إحباط مخططات مدروسة ومنفذة بعناية ودقة، وبدماء باردة لا عواطف فيها، وأن الرجعية العربية التي لا يخطئ من يمتلك أدوات تحليل ثورية وصحيحة في فهم موقفها وموقعها، مما دفعت ما دفعته من أموال للثورة إلا لكي تتسلل إلى القرار الفلسطيني فتلجمه وتخلق فيه من التردد والميوعة ما أفقدنا الكثير من الحزم، وخاصة في المواقف المصيرية واللحظات الحاسمة، وقد آن الأوان لنا وبالتالي أن نعلن مواقفنا الثورية وقراراتنا الوطنية، دون تردد أو تهاون، مسقطين من حسابنا تلك المخاوف المالية أو السياسية التي تصب في طاحون سياسة الإحباط والتيئيس التي تريد الإمبريالية تعميمها في المنطقة. وبدون ذلك فلن نتمكن من معاودة النهوض واستكمال المسيرة حتى النصر.
أيها الإخوة:
لست متشائما حين أقول إنني لا أتوقع الموافقة على اقتراحاتي وإصدارها في بيان علني، فتركيب كافة بُنى الحركة ومؤسساتها والأشواط التي قطعت لا تسمح باتخاذ هذه القرارات.
وعلى ذلك، وإذا لم يوافق المجلس على مقترحاتي، فإنني أرجو المجلس الثوري اتخاذ قرار بانعقاد مؤتمر طارئ للحركة، قبل اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، وأن يكون في هذه العاصمة الثورية في عدن، من أجل حسم الأمور في الحركة، وإيقاف الدوامة التي تهدد كل تضحيات شعبنا بالخسران.
لقد قاتلنا قتالا شجاعا وعظيما، وأثبتنا أن شعبنا شعب عظيم وعملاق، فنقلنا المعركة إلى قلب العدو وأحدثنا في داخله انقسامات حادة، تؤذن بانهياره وهزيمته. ولكن ما اتخذ من قرارات وإجراءات والاستمرار في السير على هذا النهج الذي يتناقض مع منطلقاتنا ومع ما أقسمنا عليه، ينقل المعركة إلى داخلنا فيمزق وحدتنا، ويؤذن بانهيارنا، وتصفية قضيتنا.
أيها الإخوة:
كونوا في مستوى المسؤولية والأمانة التي حمّلها لكم الشهداء.
ألا هل بلّغت؟ اللّهم فاشهد.
وثورة حتى النصر.
= = =
المصدر: مجلة «الحقيقة». العدد الثاني: 10/1983.
توثيق المقتطفات من الكتاب في الهوامش (أسلوب شيكاغو):
النسخة الورقية:
1. عدلي الهواري (محرِّر)، حركة فتح 1983: الانتفاضة/الانشقاق: التعاميم والبيانات الأولى (لندن: عود الند، 2023)، ص - -.
توثيق النقل من الموقع:
يحذف من التفاصيل أعلاه رقم الصفحة، ويضاف إليها رابط الصفحة المنقول منها.
توثيق الكتاب في قائمة المراجع:
الهواري، عدلي (محرِّر). حركة فتح 1983: الانتفاضة/الانشقاق: التعاميم والبيانات الأولى. لندن: عود الند، 2023.
عنوان الكتاب يكتب بخط مائل أو يوضع تحته خط.