مكتبة وأرشيف

د عدلي الهواري

للمساهمة في التراكم المعرفي وتعزيز التفكير النقدي

ORCID iD icon https://orcid.org/0000-0003-4420-3590
 
أنت في : الغلاف » كتب الهواري بالعربية » الديمقراطية والإسلام في الأردن » ف 4: الديمقراطية والإسلام: حجج عدم التوافق

كتاب: الديمقراطية والإسلام في الأردن

ف 4: الديمقراطية والإسلام: حجج عدم التوافق

د. عدلي الهواري


من الضروري قبل استعراض حجج عدم التوافق توضيح الإجراء الذي يؤدي إلى استنتاج أن أمرا ما حلال وفق تعاليم الإسلام، وأمرا آخر حرام، وبالتالي غير متوافق مع الإسلام. تحديد الحلال من الحرام يتبع ما يسمى «أصول الفقه»، وهو من العلوم الفقهية وتم بمقتضاه التوصل إلى الكثير من الأحكام المتعلقة بالإرث والزواج وأمور أخرى. سأركز هنا على الحرام لأنه يتعلق بحجة عدم التوافق.

د. عدلي الهوارييركز هذا الفصل على حجج التعارض بين الديمقراطية والإسلام. سوف أناقش أولا أسس ادعاء بعض المسلمين أن الديمقراطية لا تتوافق مع الإسلام. في هذا السياق، من المهم توضيح الإجراء الذي يتبعه الفقهاء (أو يجب اتباعه) قبل التوصل إلى استنتاج أن فعلا ما أو أمرا ما حرام، وبالتالي غير متوافق معه.

نشأ الإسلام [1] في مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهما ضمن حدود ما يعرف حاليا بالمملكة العربية السعودية. دعا الإسلام إلى الاعتقاد بأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. الشهادة بذلك تدخل قائلها في الإسلام. عندما بدأ محمد ينشر رسالته تعرض وأتباعه إلى الاضطهاد في مكة. ونتيجة لذلك، أمرهم بالهجرة إلى المدينة، وانضم إليهم هناك.

في المدينة المنورة، مارس المسلمون شعائرهم الدينية بحرية، وكانوا قادرين على جذب المزيد من الأتباع. وزادت قوتهم على مر السنين. وتمكنوا من العودة إلى مكة وتخليصها من الأصنام التي كان يعبدها غير المسلمين.

انتشر الإسلام خارج مكة المكرمة والمدينة المنورة، وعلى مر القرون، فتح المسلمون مناطق شاسعة من العالم. يتبع الإسلام حاليا حوالي مليار نسمة، معظمهم من غير العرب.

تاريخ الإسلام مليء بالصراعات على السلطة والنزاعات الداخلية. وقد وقع الأول بعد وفاة النبي محمد. وكان الخلاف حول من هو الأكثر استحقاقا لخلافته: شخص من الذين هاجروا معه من مكة؛ أم شخص من المواطنين الذين رحبوا به وأتباعه في المدينة المنورة؛ أم شخص من عائلته الكبيرة، مثل ابن عمه علي. وكانت نتيجة هذا الخلاف اختيار أبو بكر، وهو صديق محمد، وحموه، وأصبح لقبه الخليفة.

الخلافات المبكرة بين المسلمين أسفرت عن ظهور مذهبين إسلاميين: السنة والشيعة. في المذهب السني، تولى أحاديث وأفعال النبي محمد (السنة النبوية) أهمية قصوى، ولها المرتبة الثانية في الأهمية بعد القرآن الكريم. وفي المذهب الشيعي، يعتبر ابن عم محمد، وهو الخليفة الرابع، علي، وأفراد عائلته، معصومين.

المذهب السني هو الأكبر. وكالة المخابرات المركزية الأميركية (2010) تقدر أنه «يمثل أكثر من %57 من السكان المسلمين في العالم، في حين أن المذهب الشيعي يمثل %10 - %20 من المسلمين في جميع أنحاء العالم».

يتركز وجود الشيعة في إيران والعراق والبحرين ولبنان. وهناك شيعة يعيشون في دول عديدة مثل السعودية ودول الخليج والهند وباكستان وتركيا.

تختلف الممارسات الدينية والتفسيرات من بلد إسلامي إلى آخر. وهناك اختلافات حتى داخل البلد الواحد وضمن نفس الفرع من الإسلام.

في الأردن، %92 من السكان هم من المسلمين السنة (سي آي ايه 2007، ص 329). لذلك، كلما ذكر الإسلام في هذا الكتاب، فإن المقصود المذهب السني الذي تتبعه غالبية المسلمين في جميع أنحاء العالم، والغالبية العظمى من الناس في الأردن. وهو أيضا دين الدولة في الأردن.

حجج عدم التوافق

يمكن تصنيف حجج عدم التوافق بين الديمقراطية والإسلام في فئتين. الأولى تضم حجج الجماعات أو الأفراد الذين يعتمدون في الحجج على أسس دينية، أو للدقة على تفسيراتهم للقرآن والسنة. ضمن هذه الفئة، على سبيل المثال، حزب التحرير (1990)، أبو الأعلى المودودي (1976)، وسيد قطب ([1964] 1979).

وضمن الفئة الثانية باحثون مثل برنارد لويس (1990)، صموئيل هنتنغتون (1991 و1997)، وفرانسيس فوكوياما (1992)، دانيال بايبس (1997)، ومارتن كريمر (1997). تستند حجج الفئة الثانية إلى أسس مختلفة سيتم استعراضها بعد استكمال هذا القسم التمهيدي.

من الضروري قبل استعراض حجج عدم التوافق توضيح الإجراء الذي يؤدي إلى استنتاج أن أمرا ما حلال وفق تعاليم الإسلام، وأمرا آخر حرام، وبالتالي غير متوافق مع الإسلام. تحديد الحلال من الحرام يتبع ما يسمى «أصول الفقه»، وهو من العلوم الفقهية وتم بمقتضاه التوصل إلى الكثير من الأحكام المتعلقة بالإرث والزواج وأمور أخرى. سأركز هنا على الحرام لأنه يتعلق بحجة عدم التوافق.

يشرح زيدان ([1976] 2004، ص 113-180) خطوات تحديد الأحكام، ويشير إلى أن الفقيه يلجأ إلى أربعة مصادر رئيسة للحصول على الأدلة، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس. ويؤكد العوّا (2006، ص 149-150) أن الأدلة الموجودة في هذه المصادر لها قوة هرمية، أي أن الأدلة الموجودة في القرآن الكريم لها الوزن الأكبر:

ونود أن نشير هنا إلى أن تقدم الإجماع على غيره من الأدلة المأخوذة من القرآن والسنة أو الاكتفاء بذكره دونها، أمر مخالف للترتيب المقرر في علم أصول الفقه لأدلة الأحكام الشرعية. فهذه الأدلة مرتبة ترتيبا تنازليا من الأقوى إلى الأدنى، ويستدل في المسائل الفقهية بالأدلة على ترتيبها، فإن دل القرآن والسنة على أمر قدم القرآن على السنة والإجماع، وقدمت السنة على الإجماع، وهكذا على سائر الأدلة.

بعبارة أخرى، فإن الإجراء المشار إليه هنا ليس خاصا بفقيه أو عالم معين. ولمزيد من الوضوح، تجب الإشارة إلى أن العثور على الدليل في القرآن الكريم يحسم الأمر، ولا يبحث الفقيه عن دليل يخالفه في السنة النبوية أو في مصدر آخر. وسوف أستخدم هذه الطريقة لشرح كيف يمكن فقيه أن يثبت ما يجب أن يكون الحكم بخصوص أمر يريد المسلم أن يمارسه وفقا لأحكام الإسلام.

كي يعتبر شيء محرما في الإسلام، سيكون كذلك بصورة جازمة إذا ورد في القرآن ذكر لهذا الأمر باعتباره محرما. لنأخذ القمار وتناول الخمور، على سبيل المثال، لمعرفة كيف يمكن استنتاج أنهما محرمان. سيبحث الفقيه عن دليل التحريم في القرآن أولا. وسوف يجد الآية 90 في سورة المائدة التي تقول: «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون».

الدليل في هذا الشأن موجود في القرآن الكريم، والحكم واضح، فهناك أمر بالاجتناب. ولذا، لا يحتاج الفقيه إلى البحث عن أدلة تحريم في أي مصدر آخر، لأنه وجد الدليل في المصدر الأهم، وهو القرآن الكريم.

بتطبيق هذا الإجراء على الديمقراطية، يجب أن يبحث المرء عنها في القرآن ليجد الدليل بشأنها. كلمة «الديمقراطية» غير واردة في القرآن. لذلك، لا يمكن القول إنها متعارضة مع الإسلام وفق دليل واضح في القرآن الكريم. ولذلك، يجب أن ينتقل الفقيه إلى الخطوة الثانية، وهي البحث عن الدليل في السنة النبوية، وخاصة في الأحاديث الصحيحة [2] أو في الأعمال التي قام بها النبي.

تجدر الإشارة إلى أن السنة لا تناقض القرآن، بل يمكن أن تفسره، أو تذكر أمرا غير مذكور فيه. على سبيل المثال، كيفية صلاة المسلمين ليس لها وصف في القرآن الكريم، والنبي هو من علّم المسلمين كيف يصلون. يؤدي المسلمون الصلوات وفق ما علمهم النبي، وليس وفق وصف لذلك في القرآن.

في الخطوة الأولى تبين أن القرآن لا يوجد فيه ما يحدد الحلال أو الحرام بشأن الديمقراطية (على أساس استخدام الكلمة، كما بالنسبة للخمر). فماذا عن الدليل في السنة؟ إذا نهى النبي عن ممارسة الديمقراطية في حديث أو عمل، سوف يعتبر المسلمون ذلك أمرا دينيا يمنع ممارستها.

لو بحث أحد عن «الديمقراطية» في الأحاديث النبوية الصحيحة، لن يجدها مذكورة. لذلك، لا يمكن بعد إكمال الخطوة الثانية في البحث عن دليل أن يعتبر المرء الديمقراطية غير متوافقة مع الإسلام. لذلك، يجب الانتقال إلى الخطوة الثالثة في البحث عن دليل. عندما لا يمكن العثور على الحكم أو الدليل في القرآن الكريم أو السنة النبوية، فإن الفقهاء يبحثون عنه في القضايا التي أجمعت عليها آراء الصحابة [3]. يوضح زيدان (2004، ص 187)، أن الحكم المتعلق بحصول الجدة على حصة من الميراث تم التوصل إليها من خلال قاعدة الإجماع. إذ أكد الصحابة أن أبا بكر وعمر طبقا هذا الحكم، وكانت الحصة المخصصة للجدة تعادل السدس.

لو حاول أحد أن يجد في قضايا الإجماع عن حكم بشأن الديمقراطية، فلن يجد حكما بشأنها. لذلك، يجب الانتقال في البحث عن الدليل إلى الخطوة الرابعة، وهي القياس.

يوجد في القرآن أمر للمسلمين بتجنب المشروبات الكحولية، كما هو موضح أعلاه. ولكنه لا يذكر المخدرات: مثل الماريوانا والأفيون والهيروين، والمواد المماثلة. ولكن لأن للمخدرات تأثيرا يشبه تأثير الكحول على العقل، فمن المنطقي أن تعتبر المخدرات محرمة على المسلم أيضا. لتطبيق هذه الطريقة على الديمقراطية، على الفقيه أن يبحث عن شيء يمكن مقارنته بالديمقراطية، فإذا كانت شبيهة بأمر محلل، فهي كذلك أيضا، وإذا كانت شبيهة بأمر محرم، فهي كذلك أيضا.

من الضروري إيضاح أن البحث عن الأدلة لا يتوقف عند القياس، فهناك الاجتهاد، والمصالح. ولذلك، عندما يبلغ الفقيه مرحلة القياس، لا تعود مسألة التوصل إلى حكم مرتبطة بدليل في مصدر لا مجال للاختلاف معه فقهيا.

مقارنة الديمقراطية بشيء آخر تقود إلى استنتاجين متناقضين. الأول هو أنه لا يمكن اعتبار الديمقراطية محللة لعدم وجود ما يعادلها من الأمور المحللة في الإسلام. الاستنتاج الآخر هو أن الديمقراطية تشبه أمرا محللا في الإسلام، ولذلك، ممارستها حلال أيضا. مقارنة الديمقراطية ممكنة مع الشورى، التي تعني الاستشارة والتداول في الأمر. الشورى مذكورة في القرآن في سياق الحث على ممارستها. الاستنتاجان المتناقضان ممكنان بناء على تفسير مؤيدي كل استنتاج للشورى ولمعنى الديمقراطية.

السورة الثانية والأربعين في القرآن الكريم اسمها «الشورى». وتشير الآية 38 منها إلى بعض صفات المسلمين، ومن بينها ممارسة الشورى: «والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون». وفي الآية 159 من سورة آل عمران أمرٌ للرسول باستشارة المسلمين.

فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.

لكن الآراء تختلف حول متى وكيف تكون الشورى، وما إذا كانت نتيجتها ملزمة. البوطي (2003) يقول إن النبي محمد تشاور مع أصحابه. ولكنه يقول إن الحاكم غير ملزم باتباع النصيحة التي يقدمها له من يشاورهم:

«فالشورى في الشريعة الإسلامية مشروعة، ولكنها ليست ملزمة، وإنما الحكمة من استخراج وجوه الرأي عند المسلمين، والبحث عن مصلحة قد يختص بعلمها بعضهم دون بعض، أو استطابة نفوسهم. فإذا وجد الحاكم في آرائهم ما سكنت نفسه إليه على ضوء دلائل الشريعة الإسلامية وأحكامها، أخذ به، وإلا كان له أن يأخذ بما شاء بشرط ألا يخالف نصا في كتاب ولا سنة ولا إجماعا للمسلمين» (ص 237).

أما الغزالي (1990) فيرفض الآراء التي تشبه رأي البوطي، أي أن الشورى مسألة محض إجرائية، ولا جدوى منها بالنسبة للمحكومين. ويتفق الغزالي مع فكرة أن الشورى لا تستخدم لتحديد الحلال والحرام في الإسلام: «إن الشورى لا علاقة لها بالعقائد والعبادات والحلال والحرام، فهي لا تنشئ طاعة ولا تحل حراما، إنها كالاجتهاد لا مكان لها مع النص». ويقول إن الشورى تشمل الأمور الدنيوية: «ولو راجعنا حصيلة المناقشات التي دارت في مؤسسات الشورى بالعالم كله لوجدناها تتصل بالشؤون المدنية، وربط الموازنة العامة، وأحكام هيمنة الأمة على شؤون الحرب والسلام».

ويضيف الغزالي: «وعندما ترى الأمة أنه لا تفرض ضريبة إلا بإذنها ولا ينفق قرش إلا بإشرافها، ولا تقر مصلحة مرسلة إلا برضاها ولا تعلن حرب إلا بموافقتها .. إلخ فذلك حقها بداهة. إن ترك ذلك لتقدير فرد عبقري أو يدعي العبقرية —وأكثر الحكام من أولئك الأدعياء — هو ضرب من الانتحار» (ص 45-47).

يتفق القرضاوي (1974) مع وجهة نظر الغزالي بشأن الشورى. وهو يرى أنها ملزمة أيضا:

«والقيادة الشرعية هي التي تتخذ الشورى قاعدة لها فيما ليس فيه نص ثابت صريح ملزم لا معارض له، وفيما له طبيعة الأمر العام الذي يهم جميع الناس أو جمهورهم». ثم يشير إلى أن «الرأي الأرجح الذي يطمئن إليه القلب: أن الشورى ملزمة». ويشرح بعد ذلك الأسباب التي تجعله يعتقد أنها كذلك (ص 227-229).

إضافة إلى ما سبق، فإن غرايبة (2000)، الذي شغل منصب نائب الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي، خصص في أحد كتبه فصلا لقضية الشورى (ص 295-328). ويقول إن الشورى تشمل حق الأمة في انتخاب قائدها، وإنها تنطوي على قبول حكم الأغلبية. ويعدد سبعة أسباب توجب التزام الحاكم برأي الأغلبية، ومن بينها:

4. إن إلزام الأمير باتباع رأي الأغلبية يعتبر ضمانة على عدم الاستبداد بالرأي ومنع التسلط الفردي الذي عانت الأمة منه فترات طويلة.

5. إن الالتزام برأي الأغلبية أكثر تحقيقا لمبدأ سلطة الأمة والذي هو محل اتفاق ولا نزاع فيه، وإن تفرد الأمير برأيه، وعدم نزوله على رأي أهل الشورى إنما هو نقض لسلطة الأمة، واعتداء على حقها الممنوح لها شرعا.

6. إن الالتزام برأي الأغلبية أكثر انسجاما مع روح الشريعة، وأكثر تحقيقا لمقاصد النصوص التي جاءت تأمر بالشورى وتحض عليها.

بعد إتمام إيضاح منهج الوصول إلى حكم الإسلام بشأن مسألة ما، حان وقت العودة إلى استعراض ومناقشة حجج عدم التوافق، فنحن الآن على دراية بطريقة الوصول إلى الأحكام الشرعية المستندة إلى الأدلة الواردة في المصادر المذكورة في البداية، ولذا أرضية النقاش واضحة المعالم.

حجج عدم التوافق: المسلمون

من بين القائلين بعدم التوافق بين الإسلام والديمقراطية حزب التحرير الإسلامي، الذي أسسه تقي الدين النبهاني في عام 1953. ووفقا لزعيم الحزب عبد القديم زلوم (1990): «الديمقراطية التي سوقها الغرب الكافر إلى بلاد المسلمين هي نظام كفر، لا علاقة لها بالإسلام، لا من قريب، ولا من بعيد. وهي تتناقض مع أحكام الإسلام تناقضا كليا في الكليات وفي الجزئيات، وفي المصدر الذي جاءت منه، والعقيدة التي انبثقت عنها، والأساس الذي قامت عليه، وفي الأفكار والأنظمة التي أتت بها. لذلك فإنه يحرّم على المسلمين أخذها، أو تطبيقها، أو الدعوة لها تحريما جازما» (ص 2-4).

خلافا لما يذكره ازبوزيتو وفول (1996، ص 23)، فإن المودودي (1976، ص 159) يقول إن الإسلام والديمقراطية غير متوافقين. بل هو يقول إن الإسلام هو ‹النقيض التام للديمقراطية الغربية العلمانية». في معرض شرح أسباب عدم التوافق، يقدم المودودي حجتين متناقضتين. يقول في واحدة إن الإسلام والديمقراطية غير متوافقين. ويتحدث في الثانية عن «الجوهر الديمقراطي» للإسلام، ويبتكر مصطلح «الديمقراطية الدينية» (الثيولوجية الديمقراطية) (ص 148-170).

تجاهل ازبوزيتو وفول (1996) واحدة من حجتي المودودي، وركزا على الأخرى. الحجة التي تجاهلاها تذكر بالتحديد «الديمقراطية العلمانية الغربية». لقد ناقشت بصورة موجزة في فصل آخر كيف أنه من الخطأ أن تُعتبر الديمقراطية أو الحداثة أوروبية أو غربية.

الغنّوشي (1993) يقول إن: «النظام الديمقراطي على ما هو عليه في الغرب يبقى في غياب النظام الإسلامي الديمقراطي أفضل الأنظمة التي تمخض عنها تطور الفكر البشري، كما أنه يبقى صالحا لضمان حرية الشعوب في تقرير مصيرها واختيار نوع النظام الذي تريد أن تعيش في ظله». ويضيف أنه لا يجوز «الاتكاء على عيوب هذا النظام لرفضه حتى وإن يكن ذلك لحساب الدكتاتورية، فإن حرية منقوصة أو منفلتة خير من الاستبداد» (ص 87).

على أي أساس يعلن المودودي أن الإسلام والديمقراطية غير متوافقين؟ يولي المودودي أهمية كبرى لفكرة «السيادة الإلهية» ويقارنها بسيادة الشعب. يقول المودودي: «جميع الأنبياء نقلوا للبشرية التوجيه الذي أنزل إليهم وطلب منهم الاعتراف بالسيادة المطلقة لله وتقديم الطاعة الخالصة له» (ص 149).

ويقول أيضا إن «الاعتقاد بوحدة وسيادة الله هو أساس النظم الاجتماعية والأخلاقية التي دعا إليها الأنبياء» (ص 158). حجة المودودي بشأن الديمقراطية تقوم على أساس أن الديمقراطية تعني سيادة الشعب (1967، ص 158). ولكنه ومن يفكرون مثله يعتقدون أن هناك سيادة واحدة، وهي لله فقط. ويعتمد في حجته على الآية 30 من سورة البقرة: «وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون».

إن سياق الآية لا علاقة له بالديمقراطية، أو كيف يجب أن تحكم فئة من الناس فئة أخرى على الأرض. ويشرح أبو الفضل (2004) أن «خليفة الله على الأرض لا يشارك الله الكمال في الحكم والإرادة». ويقول إن ما يسميه «الديمقراطية الدستورية» يمكن أن تشكل «أساسا للسعي إلى تحقيق العدالة، وبالتالي تنفيذ المسؤولية التي حملها الله لكل واحد منا» (ص 6).

يشير الغزالي (1990، ص 44-45) إلى أن الناس لاحظوا أن وجهة نظره بشأن الشورى تختلف عن وجهة نظر المودودي. ويقول موضحا وجهة نظره: «والذي أذكره —من قراءة مر عليها ربع قرن— أن المودودي يرفض أن تعترض الشورى حق السلطة التنفيذية في اختيار الوسائل والأدوات. وهذا مقرر في الأنظمة الحديثة حيث لا تعترض السلطة التشريعية على أعمال أختها التنفيذية. أما القول بأن الإسلام أقر الشورى في الحكم، وأعفى الحاكم من نتائجها، وأن البناء السياسي للأمة الإسلامية يقوم على هذا الأساس فذاك كلام باطل» (ص 45).

يعارض المودودي الديمقراطية لأنها تعتمد على سيادة الشعب. ويقول: «إذا كره الناس قانونا وطالبوا بإلغائه، مهما كان عادلا وصائبا، يجب أن يلغى فورا» (ص 160). هذا وصف خاطئ لكيفية عمل نظام الحكم الديمقراطي، سواء فيما يتعلق بكيفية سن القوانين أو كيف يتصرف الناس في ظل الديمقراطية، وكيف يتم إلغاء القوانين. في رأيي أنه عندما بلور المودودي حجته المتعلقة بالسيادة الإلهية، فقد كان حينها يرد على الحجج المتداولة في عصره. عندما تقدم الديمقراطية بصفتها «سيادة الشعب»، فمن غير المستغرب أن يرد بقوله إن إرادة الله أسمى.

وأود هنا أن أذكّر بما قاله هنتنغتون (1991، ص 5-7) عن المناقشات بين الباحثين حول معنى مفهوم الديمقراطية، وأنها استمرت حتى السبعينيات، أي إلى أن أصبح التعريف الإجرائي مهيمنا. بعبارة أخرى، خاض المودودي نقاشا مختلفا، وكان يتعلق بسلطة الحكومة والغرض منها. لذلك، فإن تفسير المودودي للديمقراطية لا يشكل أساسا لرفض الديمقراطية واعتبارها متعارضة مع الإسلام.

سيد قطب ([1964] 1979) يقول إن الإسلام والديمقراطية غير متوافقين. وهو يستخدم مفهوم السيادة الإلهية، ولكنه يسميها الحاكمية. ويستشهد بعبارة «إن الحكم إلا لله» (ص 84) التي ترد أكثر من مرة في القرآن الكريم. ويشتق مصطلح «الحاكمية» (ص 22). عندما يدقق المرء في معنى «حكم» حيث يظهر في القرآن، سيجد من الواضح أن المعنى ليس الدولة، او النظام، أو الحكومة. تأتي كلمة «الحكم» عادة في سياق يعني أن القرار النهائي (الحكم) لله، وله القول الفصل.

ولكن تأكيد قطب أن «الحكم لله» لا يأتي بجديد، فالمسلم الذي يمارس العبادات يعرف ذلك. حتى الملك أو الرئيس الذي يصلي يعرف أن الله أسمى منه. لذلك، لا يوجد أي تناقض بين وجود دولة ذات سيادة لها حاكم والسيادة الإلهية، فرغم استخدام لفظ واحد، إلا أن سيادة الدولة تعنى شيئا مختلفا عن السيادة الإلهية.

قطب يفعل ما يحذر منه كارل بوبر (1963)، أي البحث عن «دليل تأكيدي» لنظرية وتجاهل الأدلة المناقضة (التفنيد). (ص 36). وفقا لتحليل بوبر، فإن هذا الأسلوب يُنتج في بعض الحالات «أساطير»، أي عندما تصاغ النظرية بطريقة لا يمكن اختبارها (ص 38). ولشرح وجهة نظره، يشير بوبر إلى نظرية ماركس بشأن التاريخ، وكيف أن مؤيديه رفضوا تفنيدات الآخرين لها. ونتيجة لهذا الرفض، فهم كلما فتحوا صحيفة وجدوا على كل صفحة منها دليلا يؤكد تفسيرهم للتاريخ (ص 35).

تجدر الإشارة إلى أن آية أخرى من القرآن الكريم وهي ««يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ...» (الآية 59 من سورة المائدة) تستخدم في السعودية لإضفاء الشرعية على الأسرة الحاكمة، وطلب الطاعة من الشعب. ليس للمرء إلا أن يتكهن إن كان قطب يعتبر هذه الآية متوافقة مع تركيزه على الآيات التي تقول «إن الحكم إلا لله»، وبالتالي يصبح من الجائز تخويل «أولي الأمر» بالحكم.

يستشهد قطب بآيات كاملة أو بأجزاء منها لدعم حججه، رغم أن السياق لا يكون له صلة بالحجة. ويغالي في التعبير عن حجته عندما يدافع عن «شرع الله»، ويقول على سبيل المثال (ص 96):

إن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله، كما أنزله الله، وكما بلغه عنه رسول الله. فإذا بدا للبشر ذات يوم أن مصلحتهم في مخالفة ما شرّع الله لهم، فهم أولا: «واهمون» فيما بدا لهم (...) وهم ثانيا: «كافرون». فما يدعي أحد أن المصلحة فيما يراه هو مخالفا لما شرع الله، ثم يبقى لحظة واحدة على هذا الدين، ومن أهل الدين.

يظهر المقتطف أعلاه كم هو سهل تكفير المسلم بمجرد اتهامه بمخالفة شرع الله، وكأن المقدرة على فهم شرع الله مقتصر على أناس دون غيرهم، أو أن فهم فئة هو الصحيح وفهم غيرها مخالف لشرع الله. لكن وجهات نظر قطب لم تمر دون رد عليها من رجال دين آخرين لا يقلون عن قطب حرصا على الدين. على سبيل المثال، حسن الهضيبي، أحد الزعماء السابقين لجماعة الإخوان المسلمين، خطّأ قطب على تكفيره المسلمين، وأورد من القرآن والسنة أدلة تخالف أدلة قطب. وناقش الهضيبي أيضا نقطة المودودي بشأن السيادة الإلهية، ونقطة قطب بشأن الحاكمية (ص 103-113). ويقول (ص 111):

واعتقاد عامة الناس أن لأولي الأمر حق إصدار القوانين ووضع التنظيمات التي تنظم جوانب من حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بناء على نصوص من القرآن والسنة، اعتقاد ليس فيه أيضا شبهة الكفر والشرك، بل هو اعتقاد في أصله حق».

كما أن القرضاوي (2001) يخطّئ قطب في مذكراته لتكفيره المسلمين. ويقول إنه ناقش أفكاره بشأن الاجتهاد والجهاد، ويرى أن قطب «تبنى أضيق الآراء وأشدها في الفقه الإسلامي، مخالفا اتجاه كبار الفقهاء والدعاة المعاصرين، داعيا إلى أن على المسلمين أن يعدوا أنفسهم لقتال العالم كله، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون! وحجته في ذلك آيات سورة التوبة، وما سماه بعضهم «آية السيف» ولم يبال بمخالفة آيات كثيرة تدعو إلى السلم، وقصر القتال على من يقاتلنا». ثم يبدي القرضاوي رأيه في انتقاد قطب معارضي وجهة نظره فيقول:

ومما ننكره على الأستاذ سيّد [قطب] رحمه الله أنه يتهم معارضيه من علماء العصر بأمرين: الأول: السذاجة والغفلة والبله، ونحو ذلك مما يتصل بالقصور في الجانب العقلي والمعرفي. والثاني: الوهن والضعف النفسي، والهزيمة النفسية أمام ضغط الواقع الغربي المعاصر، وتأثير الاستشراق الماكر مما يتعلق بالجانب النفسي والخلقي [4].

النفيسي (199937) يشرح سبب جاذبية أفكار قطب لبعض الشباب المسلمين: «إن جاذبية سيد قطب للنشء الإسلامي الطالع، ولمن يعبرون مرحلة تحول فكري في حياتهم تكمن في أربع مسائل» من بينها «استشهاده، مما أضفى معنى زائدا إلى ما كان يدعو إليه وهذا يعني تطابق الفكر عنده بالواقع، وهذا «النيشان» الذي يتمنى المجاهد الإسلامي أن يُرسم على قبره» (ص 37).

ومن أسباب الجاذبية الأخرى في رأي النفيسي: «أن تنظيراته تخلو من التجريد الفلسفي، والجفاف الفكري، فقد كتبها ببيان أدبي، تسيطر عليه عاطفة داعية أيديولوجي متدفقة، وهذا ما يعوضهم عن القراءة في الأدب، من جانب، ويعودهم من جانب آخر على استخدام المنطق القطعي، ولغة الحسم في مناقشة المخالفين لهم (ص 38).

لم يكتف قطب بحجة الحاكمية، بل اعتبر أن العالم بأسره، بما في ذلك المسلمون، يعيش في حالة من الجاهلية، وأن ما يسميه «المجتمع الجاهلي» يشمل أيضا المسلمين: «وأخيرا يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها «مسلمة».» (ص 91). ولم يستثن من تشخيصه هذا حتى المسلمين الملتزمين بالعبادات: «ليس المجتمع الإسلامي هو الذي يضم ناسا ممن يسمون أنفسهم «مسلمين»، بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا المجتمع، وإن صلى وصام وحج البيت الحرام» (ص 105).

عندما تكون كل المجتمعات، المسلمة وغير المسلمة مجتمعا جاهليا واحدا، كما يرى قطب (ص 88-93)، من المستغرب ألا يلاحظ الإنسان أن هذا التشخيص لا يمكن أن يكون صحيحا. ورغم ذلك، ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح، ويتعلق بمعنى الجاهلية، فالمصطلح المقصود به المرحلة التي سبقت الإسلام. المعنى المعاصر لكلمة جاهل يشمل اعتبار المرء على غير دراية بأمر ما، أو محدود التفكير. ويوصف الأطفال أحيانا بأنهم «جهّال». واكتسب مصطلح الجاهلية المعنى المعاصر المرتبط بالجهل. فهل كان هذا هو المعنى قبل 1400 سنة، أي وقت ظهور الإسلام؟

اللغة: معان قديمة وجديدة

كيف يمكن المودودي أو قطب أن يستشهد بآية ما من القرآن، وبناء عليها يقول إنها تتضمن نصا واضح المعنى؟ بعد استنفاد الخطوات الأربع المذكورة سابقا، يصبح من الممكن اللجوء إلى الاجتهاد، وهو الوصول إلى استنتاج منطقي تدعمه الأدلة. حتى لا يساء استعمال الاجتهاد، هناك قاعدة فقهية تقول: «لا اجتهاد مع النص».

بناء على هذه القاعدة، من الممكن لمؤيد آراء قطب أن يقول إن آية كالآية 57 من سورة الأنعام: «قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين» لا تبقي مجالا للاجتهاد واستنتاج أن الديمقراطية متوافقة مع الإسلام.

لقد أشرت من قبل إلى أن «الحكم» في القرآن لا تعني دولة أو حكومة أو نظاما. ولكن لمناقشة مختلف جوانب حجة عدم التوافق، ينبغي لي التطرق إلى نقطة متى يكون النص مانعا فعلا للاجتهاد؟ نصر حامد أبو زيد (2007، ص 88-105) يناقش مسألة «لا اجتهاد مع النص». ويتفق أبو زيد مع الرأي الذي يقول إن ثمة حالات النص فيها واضح، ولا يمكن بالتالي تأويله بصورة مختلفة. إحدى هذه الحالات، على سبيل المثال، تحريم الزواج من الأمهات والأخوات، كما هو منصوص عليه في الآية 23 من سورة النساء:

حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما.

هذا مثال جيد على حالة النص فيها لا يجيز الاجتهاد، فحكم التحريم منطقي وواضح، ولن يختلف اثنان على عدم وجود حاجة لتأويل له يلغي هذا التحريم.

ويتطرق أبو زيد إلى مصطلح الجاهلية المشار إليه سابقا. ووفق استخدام قطب وغيره [5] له فهو يعني الجهل، أي عكس المعرفة (ص 56). ويوضح أبو زيد أن هذا المعنى لم يكن ذاك المقصود في عصر النبي محمد. وكان معناه في ذلك الحين عدم السيطرة على العواطف. ويستدل أبو زيد على هذا المعنى من خلال الشعر الجاهلي، ففي معلقة عمرو بن كلثوم يقول الشاعر:

ألا لا يجهلن أحد علينا = = فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فمعنى الجهل حسب ما هو مستخدم في بيت الشعر هذا مختلف عن المعنى في الاستخدامات المعاصرة له (الخاطئة). ويرى أبو زيد أنه باستثناء حالات قليلة النص فيها واضح كما في المثال السابق، هناك مجال كبير لتأويل الآيات في القرآن الكريم. ويشير إلى أن التأويل يأخذ في الاعتبار دائما أسباب نزول الآيات على النبي محمد. وتأخذ في الاعتبار أيضا معنى الكلمات في عصر النبي.

ويشير أبو زيد إلى أن أناسا كالمودودي وقطب أعطوا بعض الكلمات معاني لم تكن المقصودة عندما أنزلت الآيات التي ترد الكلمات هذه فيها. في حالة سيد قطب، كلمة «حكم» تظهر بضع مرات في القرآن، ولكنها لا تعني مصطلح دولة أو حكومة المتداول حاليا. إعطاء كلمات في القرآن معنى جديدا معاصرا أمر يناقشه أيضا الأفندي (2008) في مقال له عن ظاهرة قيام الإسلاميين المسجونين في مصر بإعادة النظر في آرائهم السابقة. وعرفت الظاهرة بالمراجعات [6] فيقول إن:

المنظر الجهادي سيد إمام نفسه كتب قبل يوم واحد من اعتقاله بيانا يشيد فيه بأحداث الحادي عشر من سبتمبر [أيلول 2001] ويقول إن الإرهاب من الإسلام، ومن يقول بغير ذلك فهو كافر، لأنه يخالف آية: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" [سورة الأنفال؛ الآية 60].

ويشرح الأفندي أن الإرهاب مصطلح حديث يعني استهداف المدنيين استهدافا إجراميا، وأن المعنى المقصود في الآية هو «الردع». إن هذا أحد الأمثلة الجيدة على تشويه معنى كلمة وردت في القرآن، وتوجيه أشد انتقاد لمن يفعل ذلك مبرر كل التبرير، إضافة إلى أن تشويها من هذا القبيل لا يجوز أن ينطلي على أحد.

من المحتمل أن يعترض أحد على وجهات نظر أبو زيد، لأن كتابه الذي تضمن نقدا للخطاب الإسلامي كان أساس قضية رفعت في المحاكم المصرية، وصدر حكم ضده. طلبت القضية اعتبار أبو زيد مرتدا عن الإسلام، وبالتالي إبطال زواجه من زوجته المسلمة. رفض أبو زيد التخلي عن آرائه وغادر مصر. وتوفي في تموز 2010.

السبب في رفع القضية على أبو زيد هو أنه سأل في كتابه إن كان تأويل النصوص ينطبق على تأويل القرآن. وجاء رده على السؤال بالإيجاب، إذ يقول: «إن النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية، بمعنى أنها تنتمي إلى بنية ثقافية محددة، تم إنتاجها طبقا لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي» (ص 204).

ويضيف أن ثمة «توهما» يرى أنه بني «على افتراض أن العلاقة بين الإلهي والإنساني تقوم على الانفصال، بل على التعارض والتضاد، وهو توهم أسسه التصور الأشعري للعالم والذي ناقشنا امتداده في حياتنا المعاصرة قبل ذلك (ص 206). (التعارض بين الإلهي والبشري واضح في حجج قطب والمودودي التي تم استعراضها أعلاه). يخلص أبو زيد إلى القول إن النصوص الدينية هي نصوص بشرية: «وإذا كنا هنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية، فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي أيديولوجي يواجه الفكر الديني السائد والمسيطر، بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ وإلى حقائق النصوص ذاتها» (ص 209).

وبناء على هذا الاستنتاج، يرى أن النصوص الدينية «بالضرورة نصوص تاريخية، بمعنى أن دلالتها لا تنفك عن النظام اللغوي الثقافي الذي تعد جزءا منه. من هذه الزاوية تمثل اللغة ومحيطها الثقافي مرجع التفسير والتأويل. وتدخل في مرجعية التفسير والتأويل تلك كل علوم القرآن» (ص 209). لتوضيح وجهة نظره، يشير أبو زيد إلى آيات يقول إن المسلمين في العصور السابقة لم يفهموها فهما حرفيا. على سبيل المثال، الآية 17 من سورة التغابن: «إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم».

لا تفسير للقرآن الكريم يقول إن الإشارة إلى قرض إلى الله هي حرفية. وبالتالي استنتاج أبو زيد صحيح عندما يقول إن الإشارات إلى التجارة والبيع والشراء والقروض في القرآن تعكس لغة عصر اشتهر بالتجارة. وهناك إشارة في سورة قريش إلى «رحلة الشتاء والصيف».

قرار محكمة الاستئناف المصرية التي حكمت ضد أبو زيد قال إن أبو زيد كذّب: «الآيات القرآنية التي تنص على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى وتسبغ أفضل الصفات وأعظمها عليه فيقول إنه نص إنساني بشري وفهم إنساني لوحي» (العوّا 2003، ص 107).

ووردت في القرار مجموعة من الأمثلة التي رأت المحكمة أنها تدين أبو زيد، ومنها: «كذّب المستأنف ضده [أبو زيد] كتاب الله تعالى بإنكاره لبعض المخلوقات التي وردت في الآيات القرآنية ذات الدلالة القاطعة في إثبات خلق الله تعالى لها ووجودها كالعرش والملائكة والجن والشياطين، ورد الآيات الكثيرة الواردة في شأنها» (العوّا 2003، ص 107).

أسلوب المحكمة لا يختلف عن أسلوب قطب عندما اقتطف من بعض الآيات «إن الحكم إلا لله». في رأيي أنه من الممكن المواءمة بين اعتقاد المسلم بأن القرآن كلام الله، وفي الوقت نفسه، تفسير الآيات تفسيرا غير حرفي. نزل القرآن بلغة العرب، وهي لغة من صنع الإنسان [7]. كانت اللغة العربية موجودة قبل نزول القرآن، ولها قواعدها التي التزم بها العرب. اللغة التي يصنعها الإنسان تفهم وفق القدرات الإدراكية للبشر في مرحلة معينة.

فهم الكلمات، أي كلمات، سواء أكانت كلمات الله، أم كلمات شاعر، أو روائي، أو كاتب زاوية صحفية، أو مؤلف آخر، يعتمد على القارئ. إذا فهم القارئ الكلمات بطريقة مختلفة عن التي قصدها الكاتب، أو بطريقة مختلفة عن فهم الآخرين لها، لا يعني أن القارئ نفى أن الكاتب هو مؤلف الكلمات. إضافة إلى ذلك، قدرة البشر الإدراكية تتزايد باستمرار. والوجه الآخر لهذه الملاحظة أن القدرات الإدراكية محدودة دائما. ونتيجة لذلك، يستطيع الإنسان فهم المعاني بما يتماشى مع القدرة المعرفية في وقت معين.

مفسرو القرآن القدماء لم يكونوا في وضع يسمح لهم بتفسيره وفق الاكتشافات والتطورات العلمية الحديثة. في الوقت الحاضر يجد المرء الكثير من الدعاة يفسرون هذه الاكتشافات من خلال الإشارة إلى الآيات في القرآن. على سبيل المثال، الآية 14 من سورة المؤمنون تصف مراحل تكون الجنين: «ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين». ونتيجة لتقدم العلم والطب، يتوفر الدليل العلمي على صحة هذا الوصف.

التفسير المختلف لا يعني تغييرا في العقيدة وأن الكلمات ليست كلمات الله. الحجة هذه لن ترضي الملحدين والعلمانيين. قد تكون مقنعة للأناس الذين يؤمنون بالله، ولكنهم يختلفون على كيفية فهم القرآن: فهما حرفيا أم لا. عندما انتقد أبو زيد الخطاب الإسلامي، فقد فعل ذلك باستخدام أسلوب علمي في النهج والتحليل، ولم يسئ للمعتقدات الإسلامية، بل تحدث عن الإسلام في الكتاب بلغة رصينة. بمحاولة أبو زيد ترشيد تفسير القرآن خدم أبو زيد الإسلام بطريقته، في حين أن الذين قاضوه أطالوا أمد الجهل الذي يسيء للإسلام والمسلمين.

= = =

[1] هذا الكتاب كتب في الأصل بالإنجليزية، ولذا تضمن معلومات يعرفها المسلمون. ولكن لضرورات الكتابة والتمهيد للمناقشات، أبقيت بعض ما كتب في الأصل.

[2] الأحاديث النبوية تختلف في درجة صحتها. الصحيحة موجودة في صحيحي البخاري ومسلم. ولكن حتى صحة الأحاديث فيهما لا يقبلها الجميع، غير أن هذه نقطة نقاش آخر.

[3] فكرة الإجماع إشكالية في رأيي. ولكن غايتي هنا توضيح الخطوات التي يتبعها علماء أصول الفقه.

[4] تم نشر مذكرات في موقع الإسلام أنلاين، وهو موقع كان وثيق الصلة بالقرضاوي. المذكرات منشورة الآن في موقع قرضاوي.نت.

[5] المؤرخ فيليب حتّي (1948، ص 20) يفسر المرحلة بأنها «زمن الجهل» و«الهمجية».

[6] نظمت الحكومة المصرية مناقشات بين الفقهاء المسلمين والإسلاميين المسجونين. أسفرت النقاشات عن تغيير البعض وجهات نظرهم بشأن استخدام العنف.

[7] أود أن أشكر البروفسور علي بايا على تنبيهي إلى هذه النقطة المهمة


توثيق المقتطفات من الكتاب في الهوامش (أسلوب شيكاغو):

النسخة الورقية:

1. عدلي الهواري، الديمقراطية والإسلام في الأردن: 1990-2010 (لندن: عود الند، 2018)، ص - -.

توثيق النقل من الموقع:

يحذف من التفاصيل أعلاه رقم الصفحة، ويضاف إليها رابط الصفحة المنقول منها.

توثيق الكتاب في قائمة المراجع:الهواري، عدلي. الديمقراطية والإسلام في الأردن: 1990-2010. لندن: عود الند، 2018.

عنوان الكتاب يكتب بخط مائل أو يوضع تحته خط.

JPEG - 24 كيليبايت
غلاف متوسط: الديمقراطية والإسلام

بحث